في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*الشّهداء غورياس وصاموناس وأفيفس*أبونا الجليل في القدّيسين كينتيانوس، أسقف سلفكية *الشّهداء ألبيذيوس ومركلّوس وأفستوخيوس *الشّهيد ديميتريانوس *القدّيس البار فيليبّس رئيس دير رابانغ في فولوغدا *القدّيس جرمانوس (هرمان) ألاسكا *القدّيس المغبوط باييسي فيليتشكوفسكي *أبونا الجليل في القدّيسين توما الثّاني الجديد، بطريرك القسطنطينيّة *الشّهداء الرّوس الجدد بطرس كوناردوف ومَن معه.
* * *
✤تذكار القدّيسين الشّهداء غوريا وصامونا وحبيب✤
كان غوريا وصامونا وحبيب من ناحية الرّها. ولعلّهم، كما ذكر البطريرك مكاريوس ابن الزّعيم في “قدّيسون من بلادنا“، من قرى تابعة لمدينة حلب: غوريا من قرية قطما غربي عزاز، وصامونا من قرية عندان وحبيب من قرية تل عدا. وقد قضوا شهداء للمسيح بين العامين 289 و 322 للميلاد.
فأمّا غوريا وصامونا فكانا مواطنَين ذا شأن، وقيل كاهنَين، في زمن الأمبراطور ذيوكليسيانوس (284 – 305 م). فلمّا شنّت السّلطات حملة على المسيحيّين، كان لهذَين المجاهدَين دورٌ فاعل في تشديد المؤمنين وتثبيتهم في الإيمان لئلّا يخور أحد منهم تحت وطأة التّهديد فيكفر بالمسيح. وقد أمّنا الإتّصال بالموقوفين وعزّياهم وحملا إليهم بعض ما يحتاجون إليه. وبقيا كذلك إلى أن انتهى خبرهما إلى الوالي أنطونينوس فألقى جنوده القبض عليهما وأقفوهما أمامه.
فلمّا مَثَلا لديه هدّدهما أو يكفرا بالمسيح. فقاوماه قائلَين: “إذا رضخنا لمرسوم قيصر متنا ولو أبقيت علينا”. “لا نخوننّ الإله الأوحد الّذي في السّماء ولا نستبدلنّه بصورة من صنع أيدي النّاس. المسيح إلهنا وإيّاه نعبد لأنّه، بصلاحه، أنقذنا من الضّلالة، فهو ضياؤنا وطبيبنا وحياتنا”. وإذ توعّدهما الوالي بأنّه سيذيقهما أمرّ العذاب وسيسلمهما إلى الموت لو عاندا، أجاباه: “لن نموت، كما تظنّ، بل سنحيا. أجل، نحن نؤمن أنّنا إن عملنا مشيئة ذاك الّذي خلقنا حيينا. لذلك تهديداتك لا تخيفنا. والتّعذيبات تكون إلى حين ثمّ تعبر كأنّها لم تكن ولا تؤثّر فينا. لكنّنا نخشى العذاب الأبديّ المدّخر للأشرار والسّاقطين. أمّا إلهنا فيهبنا أن نحتمل عذاباتكم الّتي لا تلبث أن تزول متى خرجت النّفس من الجسد”.
استشاط الحاكم غيظًا، لكنّه أمر بسجنهما ريثما يفكّر في لون التّعذيب الموافق لهما.
وانقضت بضعة أيّام ثمّ أمر بتعليقهما، كلًّا بيد واحدة في الهواء خمس ساعات متواصلة، فثبتا ولم يتزعزعا. فأمر بإلقائهما في حفرة مظلمة ثلاثة أشهر ونصف الشّهر، ومنع عنهما الطّعام والشّراب إلّا الأقلّ من القليل. ولمّا أعادهما إليه من جديد وجدهما راسخَين ولو أوهنهما الضّيق والعذاب. “لا نعودنّ عن إيماننا ولا عن كلامنا. افعل ما أمر به قيصر، فلئن كان لك سلطان على أبداننا فليس لك على أرواحنا”. فأمر الوالي بإخراجهما من حضرته وتعليقهما في الهواء من الرِّجلَين.
أخيرًا، عيل صبر الحاكم فقضى بإنزال عقوبة الإعدام بهما. كان ذلك في الخامس عشر من شهر تشرين الثّاني من العام 289 م. فلمّا بلغ المجاهدَين الحكم تهلّلا. “نحن أشقى النّاس ولا نستأهل أن نحصى في عداد الأبرار ولا أن نقارن بهم. لكن عزاءنا قول المعلّم: “مَن أضاع حياته من أجلي يجدها” (متّى 10: 39). فالمجد لمَن أهّلنا لاحتمال العذابات لأجل اسم الرَّبّ يسوع المسيح”.
وإذ سيق غوريا وصامونا إلى مكان الإعدام وارتفع السّيف فوق عنقيهما صلّيا هكذا: “يا أبا ربّنا يسوع المسيح، تقبّل روحَينا واحفظ جسدَينا ليوم القيامة“. ثمّ قُطعت هامَتاهما.
وذاع خبر شهادة الإثنين بين النّاس فتراكضوا غير عابئين بخطر يُداهمهم وجمعوا بقاياهما، حتّى الدّماء الّتي أرويا بها التّراب، وواروهما الثّرى بالبخور والمزامير والتّسابيح لمجد الله.
أمّا حبيب فقد استُشهد في المدينة عينها، الرّها، بعد ذلك بحوالي ثلاثة وثلاثين عامًا. وخبره أنّه كان شمّاسًا يقيم مع والدته في زمن ليسينيوس. فلما حمل الأمبراطور على المسيحيّين في العام 309 للميلاد، أخذ حبيب يطوف بهمّة في القرى المحيطة بالرّها يجمع المؤمنين ويشدّدهم ويقرأ عليهم الكتب المُقدّسة. فلمّا بلغ خبره حاكم الرّها، المدعو ليسانيوس، اغتاظ وأعطى الأمر بالبحث عن الشّمّاس الجسور الوقح هذا وإلقاء القبض عليه. وإذ لم يقع الجنود له على أثر أوقفوا والدته وبعض أهل قريته. وما إن علم حبيب بما جرى حتّى أيقن أنّ أوان الاستشهاد قد حان فجاء وأسلم نفسه.
سيق الشّمّاس الغيور أمام الحاكم للاستجواب فأبدى شجاعةً وثباتًا فائقين، فأمر ليسانيوس بجلده دون هوادة. ثمّ بعد أيّام علّقوه وفسخوه ومزّقوا لحمه بأمشاط من حديد. فلم يخُر بل قال: “كما تثمر الشّجرة متى رويت كذلك تقوّي هذه التّعذيبات عزيمتي“. فتعجّب الوالي وسأله بلهجة الحانق العاجز: “أهذا ما يعلّمك إيّاه دينك أن تكره جسدك وتسرّ بالآلام؟!” فأجاب حبيب بشق النّفس: “نحن لا نكره أجسادنا، لكنّنا نفرح إذا ما تأمّلنا في الحقائق غير المَنظورة، ولنا ثقة بالوعد أنّ آلام الزّمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يستعلن للّذين يحبّون المسيح“.
احتار الحاكم ماذا يعمل بهذا المُعاند. السّيف قليل عليه. فأمر بإحراقه على نار خفيفة.
ولمّا أخذه الجند لتنفيذ الحكم اجتمع بعض المؤمنين، وكانت أمّ الشّمّاس من بينهم مجلّلة بالبياض وكأنّها في عيد. وإذ ألقاه جلّادوه في النّار لفظ، للحال، أنفاسه الأخيرة وأسلم الرّوح. وقد تمكّن المسيحيّون من إخراجه من دائرة النّار، ثمّ حملوه وواروه التّراب في نفس الموضع الّذي كانت فيه بقايا غوريا وصامونا.
ومرّت أعوام قليلة وانتهى عهد الاضطهاد فبنى المسيحيّون كنيسة في المكان ونقلوا رفات الشّهداء الثّلاثة إليها. ومنذ ذلك الوقت صارت تقام لهم ذكرى واحدة كلّ عام في مثل هذا اليوم.
هذا ويذكر التّاريخ أنّ الله أجرى برفات القدّيسين الثّلاثة عجائب جمّة. وإحدى هذه العجائب أنّه كانت لأرملة رهّاويّة ابنة صغيرة السّنّ شاءها أحد المُجنّدين من الأصل الغوطيّ أو ربّما الكرديّ زوجة. وإذ وجدت الأرملة نفسها مغلوبة على أمرها أعطت الرّجل ابنتها بعد أن أقسم لها عند قبر الشّهداء الثّلاثة، غوريا وصامونا وحبيب، أن يصونها ويتّخذها لنفسه زوجة شرعيّة. وسافر الجنديّ إلى بلاده. لكنّه لم يف بوعده بل عامل الفتاة كأمة وجعلها لخدمة زوجته الأصيل. فلمّا ماتت الزّوجة، دُفنت الفتاة الرّهاويّة معها، ربّما كما كانت العادة في تلك المحلّة. فأخذت الفتاة في القبر تنوح وتستنجد بالشّهداء الثّلاثة، فظهروا لها وحملوها في لحظة، في طرفة عين، وأعادوها إلى موطنها الأوّل، في الرّها. وهكذا وجدت الفتاة في اليوم التّالي في كنيسة الشّهداء.