في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلان *الشّهيد أثينودوروس *شهداء أفريقيا الشّماليّة *السّيّدة الرّوميّة الشّهيدة *القدّيسون الشّهداء إيسيدوروس وأكبسيماس ولاون *القدّيس الشّهيد نيوفيطوس *القدّيس الشّهيد ضومط *القدّيسون الشّهداء غايوس وغايانوس ونيقولاوس *القدّيس الشّهيد بريسكوس *القدّيس الشّهيد مرتينوس *القدّيس البار بولس المطيع *القدّيس غريغوريوس الهدوئيّ*القدّيس البار أغناطيوس القسطنطينيّ*القدّيس البار أنطونيوس سيا *القدّيس البار نيلوس ستوبلانسك.
* * *
✤القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلان✤
+ نشأته:
ولد القدّيس أمبروسيوس في عاصمة بلاد الغال، أي فرنسا اليوم، سنة 334م أو ربّما340م. كان أبوه، واسمه أمبروسيوس أيضًا، ضابطًا أعلى لشؤون فرنسا وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا واسبانيا وموريتانيا. له أخوان مرسيلينا البتول وساتيروس، وكلاهما في الكنيسة قدّيس. وثمّة قرابة تربطه بقدّيسة أخرى هي سوتيرا الشّهيدة.
رقد والده وهو صغير السّنّ فعادت به أمّه وبأخويه إلى روما، من حيث خرجت العائلة أصلًا.
تلقّى أمبروسيوس قسطًا وافرًا من العلوم فدرس اليونانيّة ونبغ في البيان والفلسفة وبرز كخطيب مفوّه وشاعر أريحيّ. كلّ هذا ولم يكن بعد قد اعتمد، مع أنّه من عائلة مسيحيّة، لأنّه كان هناك اعتقاد شائع في أيّامه أنّ من يسقط في الخطيئة بعد أن يكون قد اقتبل المعموديّة يعرّض نفسه للهلاك. لهذا السّبب جرى بعض النّاس على عادة تأجيل معموديّتهم إلى سنّ متقدّمة. القدّيس أمبروسيوس كان من هذه الفئة من النّاس، وكان ما يزال بعد في مصاف الموعوظين عندما تمّ اختياره أسقفًا لميلان في سنّ الرّابعة والثّلاثين.
خرج أمبروسيوس إلى ميلان حيث كان مقرّ المحكمة العليا، فدرس القانون وبرع وشاع ذكره حتّى بلغ أذني أنيسيوس بروبس، المولّى على إيطاليا فقرّبه إليه وجعله مستشارًا لديه ثمّ حاكمًا لمقاطعتيّ ليغوريا وأميليّا اللّتين ضمّتا كلًا من ميلانو وتورينو والبندقيّة ورافينا وبولونيا. يذكر أنّ بروبس كان رجلًا مناقبيًّا فاضلًا نزيهًا حليمًا. فلمّا أراد أن يزوّد أمبروسيوس بتوجيهاته لم يجد من النّصح خيرًا من حثّه على أن يحكم لا كقاض بل كأسقف.
وبالفعل، سلك أمبروسيوس في حاكميّته كأسقف، يقظًا، مستقيمًا، رؤوفًا. ولمّا حانت السّاعة لاحظ أهل ميلان أنّه بالحقيقة أدنى إلى الأسقف منه إلى الحاكم فاختاروه أسقفًا عليهم.
+ أسقفيّته:
مفاد ذلك أنّه لمّا رقد أوكسنتيوس، أسقف ميلان، وكان آريوسيًا، سنة 347م، اجتمع المؤمنون، صغارًا وكبارًا، في الكنيسة الكبرى في المدينة ليختاروا له خلفًا. اختيار الأسقف، فيما يبدو، كان يتمّ يومذاك بالإعلان الشّعبيّ. وإذ كان الشّعب منقسمًا على نفسه فقد تعذّرت تسمية أسقف يوافق عليه الجميع. وكادت تقع أعمال شغب فاستدعي الحاكم لضبط الوضع. فلمّا حضر وقف بالنّاس خطيبًا فأعطاه الحاضرون سكوتًا عميقًا لأنّ الجميع كانوا يجلّونه. ففتح فاه ودعاهم إلى جعل اختيارهم بروح السّلام ليكون لهم أن يختاروا الأفضل عليهم. اتّسم كلامه بالحكمة والوداعة والعذوبة فلامس قلوب سامعيه وحوّل أنظارهم إليه، فهتفوا بصوتٍ واحدٍ: “أمبروسيوس أسقف!”.
لم يصدّق أمبروسيوس، أوّل الأمر، لا عينيه ولا أذنيه. فلمّا استمر المحفل في الهتاف “أمبروسيوس أسقف!”، اضطرب وترك المكان للحال. ولمّا لحق به النّاس حاول أن يظهر بمظهر الرّجل العنيف ليردّهم عنه فلم يرتدّوا.
فأقفل على نفسه إلى حلول الظّلام. ولمّا خفتت الأصوات طلب الخروج من المدينة فهام على وجهه إلى الصّباح، ولمّا عاد إلى نفسه وجد نفسه عند باب المدينة. واستمرّت ملاحقة النّاس له أيّامًا حاول خلالها التّواري فباءت جميع محاولاته بالفشل إلى أن بلغ الخبر أذنيّ الإمبراطور والنتنيانوس الأوّل فأنفذ أمرًا بإلزامه بقبول الأسقفيّة. ولمّا لم يجد أمبروسيوس مفرًّا من الرّضوخ أسلم نفسه لله وأذعن، فتمّت معموديّته وارتقى الدّرجات الكهنوتيّة حتّى الأسقفيّة في غضون ثمانية أيّام.
وما أن ارتقى أمبروسيوس سدّة الأسقفيّة حتّى عمد إلى توزيع ما اجتمع لديه من ذهب وفضّة ومقتنيات على الفقراء، فيما وهب الكنيسة ما كان يملكه من أراض وعقارات. لم يترك من ثروته الطّائلة غير نصيب متواضع اقتطعه لحاجات أخته مرسلينا المعيشيّة. وقد ذكر مترجمه أنّ تخلّيه عن غنى العالم وكراماته كان كليًّا وبلا ندامة لدرجة أنّه، مذ ذاك، لم تعد للمال والمجد الباطل وطأة عليه.
بعد ذلك انصرف إلى دراسة الكتاب المقدّس وكتب الآباء ومعلميّ الكنيسة، لاسيّما القدّيس باسيليوس الكبير وأريجنيس المعلّم. وقد اتّخذ لنفسه مُرشدًا الكاهن سمبليسيانوس الّذي خلفه أسقفًا وأُحصي، لسيرته الفاضلة، بين القدّيسين.
وقد جرى أمبروسيوس، منذ أوّل أسقفيّته، على حفظ الإمساك بصرامة. أصوامه كانت يوميّة ما خلا في الآحاد والسّبوت وأعياد بعض الشّهداء. ولكي يجتنب الإسراف كان يمتنع عن قبول الدّعوات إلى المآدب، لكنّه كان يدعو الآخرين، أحيانًا، إلى مائدة بسيطة متواضعة لديه. كان يقضي قسمًا مهمًّا من ليله ونهاره في الصّلاة، ويقيم الذّبيحة الإلهيّة كلّ يوم ويَعظ كلّ أحد.
انصرافه إلى رعاية شعبه كان كاملًا. الفقراء في عينه كانوا الوكلاء والخازنين الّذين يستودعهم مداخيله. اعتاد أن يستقبل النّاس الوافدين إليه كلّ يوم طلبًا لمشورة أو نصيحة. فإذا ما نفذ ما في يده كان مستعدًّا حتّى لأن يبيع الأواني الكنسيّة ليسعف بها المحتاجين. وكان يقول: “إنّ إطعام الجياع حلالًا. وما كان ليتوسّط لإنسان في وظيفة لها علاقة بالقصر الملكيّ، ولا حاول البتّة أن يقنع أحدًا بالانخراط في العسكريّة، لكنّه كان يسعى أبدًا إلى إنقاذ حياة المحكومين بالموت. اعتاد أن يبكي مع الباكين وأن يفرح مع الفرحين. كان على رقّة ورأفة فائقَيْن. الخطأة التّائبون كان يرأف بهم رأفة عظيمة ويدعوهم إلى الإعتراف بخطاياهم ويبكي عليهم ومعهم. وكان يحثّ المؤمنين على المناولة بتواتر. ولا يختار أحدًا إلى الكهنوت إلّا بحرصٍ عظيم.
كان شديد العناية بكهنته، يحبّهم ويسهر على نفوسهم، يعلّمهم بالمثال ويرشدهم بالكلمة. الكاهن الصّالح كان عنده كنزًا ثمينًا عظيم القيمة، يفوق كلّ ما نتصّوره قدرًا.
كان يحب التّبسّط في الكلام على بركات البتوليّة. أخته مرسيلينا كانت بتولًا. من نسمّيهم نحن اليوم راهبات كانوا يسمَّون في أيّامه عذارى أو بتولات. بعض البتولات كان يبقى في دورهنّ وبعضهنّ كان يقتبل حياة الشّركة. أخته كانت من الفئة الأولى. وقد سألته أن يكتب عن البتوليّة فوضع ثلاث مقالات في العذارى، عرض في الثّالثة منها طريقة حياتهنّ فدعاهنّ إلى الاعتدال والامتناع عن زيارة النّاس والانصراف إلى الصّلاة والتّأمّل والبكاء والعمل بأيديهنّ لا ليؤمنّ لأنفسهنّ حاجات الجسد وحسب، بل ليكون لهنّ ما يعطينه للمُحتاجين. ويبدو من كلامه أنّ كثيرات كنّ يقبلن على الحياة البتوليّة بدليل سعيه إلى الإجابة على اعتراض قوم قالوا إن تزايد البتولات المُكرّسات يشكّل خطرًا على البشريّة لأنّ الرّاغبات في الزّواج في تناقص مطّرد.
+ أمبروسيوس والآريوسيّة:
هذا وقد اهتمّ القدّيس أمبروسيوس بتنظيف أبرشيّته من خمير الهرطقة الآريوسيّة حتّى أنّه في غضون اثني عشر عامًا من بدء أسقفيّته، لم يبق على أرض ميلان مواطن واحد على الآريوسيّة ما خلا بعض الغوط وأفراد قلائل من العائلة المالكة. صلابته حيال الهراطقة والهراطقات كانت لا تلين. الإمبراطورة يوستينة الآريوسيّة حاربت بضَراوة، لكنّه تمكّن بعون الله والتفاف المؤمنين حوله والصّمود من ردّ خطرها عن نفسه وعن شعبه. مثل ذلك أنّها أوفدت قرابة عيد الفصح من السّنة 385م عددًا من خدّامها تطلب منه أن يسلّم إحدى كنائسه لأتباع آريوس لتكون لها ولعائلتها ولهم مكان صلاة، فامنتع. فأوفدت موظّفين كبارًا فردّهم. فبعثت بضباط يضعون اليد على الكنيسة فاهتاج الشّعب وخطف أحد الكهنة الآريوسيّين. فلمّا بلغ الخبر أذني الأسقف القدّيس أرسل للحال كهنة وشمامسة استعادوه سالمًا لأنّه لم يشأ أن تهرق نقطة دم واحدة. ولمّا جاء إليه قضاة يطلبون منه أن يسلّم الكنيسة لأنّها حقّ للإمبراطور، أجاب: “لو سألني ما هو لي، أرضي أو مالي، لما منعته عنه مع أنّ ما أملك هو للفقراء، ولكن ليس للإمبراطور الحقّ فيما هو لله… إذا كان في نيّتكم أن تكبلّوني بالأصفاد أو أن تسلّموني للموت، فأنا لا أستعفي. لن أحتمي بالنّاس ولا بالهيكل…”. في المساء خرج أمبروسيوس من الكنيسة إلى بيته حتّى إذا ما أراد الجند التّعرّض له لا يتأذّى أحد من المؤمنين. ثمّ في صباح اليوم التّالي توجّه إلى الكنيسة العتيقة فألفى الجند يحيطون بالمكان فسأل بعض كهنته أن يذهبوا إلى الكنيسة الجديدة موضع النّزاع ويقيموا الذّبيحة الإلهيّة فيها، وإن تعرّض لهم العسكر فليهدّدوهم بالحرم ففعلوا. وإذ كان الجند من حسنيّ العبادة لم يتعرّضوا للكهنة بسوء فدخل هؤلاء الكنيسة وتمّموا الخدمة الإلهيّة وكان الجند بين الحاضرين. استمرّ الوضع مشدودًا لبعض الوقت وأمبروسيوس والشّعب لا يلينون إلى أن اضطرّ الإمبراطور إلى التّراجع عن موقفه.
هذا كان فصلًا من فصول اضطهاد يوستينة للقدّيس أمبروسيوس والأرثوذكسيّين.
مرّات حاولت يوستينة ترحيله ففشلت ومرّة أرسلت إليه من يضربه بالسّيف فيبست يده، ومرّة لازم الكنيسة أيّامًا والشّعب من حوله، والكنيسة يحاصرها الجند ويمنع الخارجين منها. وفي عظة تفوّه بها قدّيسنا في تلك الحقبة السّوداء خاطب الشّعب المؤمن بمثل هذه الكلمات: “أخائفون أنتم أن أتخلّى عنكم لأنجو لنفسي؟! لا! لا يمكنني أن أتخلّى عن الكنيسة لأنّي أخاف سيّد الخليقة أكثر ممّا أخاف سيّد القصر. ربّما أمكنهم أن يجرّروا جسدي خارجًا لكنّهم لا يقدرون أن يفصلوني عن الكنيسة بالفكر… لا تضطرب قلوبكم! لن أتخلّى عنكم أبدًا، ولكن لن أرد العنف بالعنف. بإمكاني أن أتنهّد وأبكي. الدّموع هي سلاحي الأوحد في مواجهة السّيوف والجنود. ليس للأساقفة غير الدّموع يدافعون بها عن شعبهم وعن أنفسهم. لا أستطيع، لا بل ليس لي الحقّ أن أقاوم بطريقة أخرى… وإن راموا تصفيتي فليس لكم إلّا أن تكونوا متفرّجين لأنّه إذا كانت هذه مشيئة الله فكلّ احتياطاتكم باطلة. من يحبّني يعطني أن أصير ضحيّة للمسيح… لن أعطي لقيصر ما هو لله… أيطالبوننا بالجزية؟ الكنيسة تدفعها! أيرغبون في عقاراتنا؟ بإمكانهم أن يأخذونها! ما يقرّبه الشّعب المؤمن كافٍ لِسَدّ حاجة فقرائه. يأخذون علينا أنّنا ننفق بوفرة على الفقراء. هذا لا أنكره أبدًا لأنّه لي فخر. صلوات الفقراء هي حصني. أولئك العمي والمخلّعون والمسنّون أشدّ بأسًا من خيرة المُحاربين… القيصر في الكنيسة هو لكنّه ليس فوق الكنيسة…”.
أخيراً رقدت يوستينة واضطربت الظّروف السّياسيّة والعسكريّة الإمبراطور والنتينيانوس الثّاني، ابنها، أن يغيّر موقفه حتّى إنّه صار يعتبر القدّيس أمبروسيوس بمثابة أب له. وبقي كذلك حتّى وفاته.
يذكر، في مجال تحصين المؤمنين ضدّ الهرطقة الآريوسيّة، إنّ القدّيس أمبروسيوس عمد إلى وضع أناشيد تتضمّن حقائق الإيمان القويم أخذ الشّعب في إنشادها. بالمناسبة، إلى القدّيس أمبروسيوس يعود الفضل في إدخال التّرتيل المزموريّ على الأسلوب التّناوبيّ المعروف في الشّرق. هذا الأسلوب ازدهر في ميلان أوّلًا ثم انتقل إلى كلّ كنائس الغرب.
+ مؤدّب المُلوك:
وفي العام 390م. جرت في تسالونيكي حوادث مؤسفة. أحد الضّبّاط هناك احتجز سائقًا للعربات ممّن يشتركون عادة في مباريات ميدان السّباق في المدينة. السّبب كان ارتكابه شائنة. وإذ بلغ الخبر الإمبراطور ثيودوسيوس وأنّ حالة من الفوضى تسود المدينة أمر العسكر بأن يحصدوا سبعة آلاف من سكّانها في ثلاث ساعات. وهذا ما فعلوه بوحشيّة منقطعة النّظير دونما تمييز بين مذنب وبريء، بين شيخ وفتى.
وانتهى الخبر إلى القدّيس أمبروسيوس فكان حزنه على ما جرى عميقًا. لاسيّما وثيودسيوس صديق حميم له.ثيودسيوس في تلك الفترة كان في ميلان والجوار. ميلان كانت المركز الإداريّ للشّقّ الغربيّ من الإمبراطوريّة آنذاك. وإذ كان ثيودوسيوس، وقت حدوث الفاجعة، بعيدًا يومين أو ثلاثة عن ميلان، وشاء أمبروسيوس أن يعطيه فرصة للعودة إلى نفسه قام فخرج من المدينة بعدما بعث إليه برسالة رقيقة صارمة حثّه فيها على التّوبة وأعلمه أنّه إلى أن يتمّم فروض التّوبة كاملة فإنّه لن يقبل تقدّماته ولن يقيم الذّبيحة الإلهيّة في حضرته. فمهما كان احترامه له فالله أولى، وليست محبّته لجلالته للمحاباة بل لخلاص نفسه.
وعاد الأسقف بعد حين إلى المدينة وجاء ثيودوسيوس على عادته إلى الكنيسة غير مبال بما سبق لأمبروسيوس أن وضعه عليه. فخرج إليه قدّيسنا خارج الكنيسة ومنعه من دخولها قائلًا له: يبدو، يا سيّدي، أنّك لا تدرك تمام الإدراك فظاعة المذبحة الّتي ارتكبت مؤخّرًا. لا يحولنّ بهاء أثوابك القرمزيّة دون اضطلاعك بأوهان ذلك الجسد الّذي تغطّيه. فأنت من طينة واحدة ومن تسود عليهم، وثمّة سيّد واحد لكلّ المسكونة. بأيّة عينين تعاين بيته؟ بأيّة قدمين تتقدّم إلى هيكله؟ كيف ترفع إليه في الصّلاة تلك اليدين الملطّختين بالدّم المُهراق ظلمًا؟ أخرج من هنا ولا تزد على إثمك إثمًا فتجعل جريمتك أفظع ممّا كانت. خذ عليك بهدوء النّير الّذي عيّنه لك الرَّبّ الإله. إنّه نير صعب ولكنّه دواء لصحّة نفسك”. فحاول ثيودوسيوس أن يخفّف من حدّة جريمته فقال: داود أيضًا أخطأ؛ فأجابه الأسقف: “إن من أخطأت نظيره عليك أن تتوب نظيره!”.
ورضخ ثيودوسيوس. إنكفأ عائدًا إلى قصره وأقفل على نفسه في بكاءٍ وتضرّعٍ إلى الرَّبّ الإله ثمانية أشهر. وجاءه أحد مستشاريه ممّن نصحوه بضرب أهل تسالونيكي على نحو ما حدث، أقول جاءه مخفّفًا عنه عذاب الضّمير وحزنه على نفسه من حيث أنّه لم يفعل إلّا ما تقتضيه الضّرورة وتستلزمه المسؤوليّة فأجابه بدموع: “أنت لا تعرف ما في نفسي من القلق والاضطراب فأنا أبكي وأنوح على شقاوتي. كنيسة المسيح مشرّعة للشحّاذين والعبيد فيما أبواب الكنيسة، وبالتّالي أبواب السّماء، موصدة دوني، لأنّ الرَّبّ الإله قال: “كلّ ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السّماء!”.
وخرج ثيودوسيوس إلى الأسقف قبل تمام توبته وسأله الحلّ من الخطايا فلم يشأ بل جعله في مصاف التّائبين بعدما اعترف بجريمته علنًا. وكان يركع عند باب الكنيسة ويردّد مع داود النّبيّ: “نفسي لصقت بالتّراب فأحيني حسب كلمتك” (مزمور25:118). وبقي على هذه الحال مدّة من الزّمان يضرب أحيانًا صدره وأحيانًا ينتف شعره فيما كانت الدّموع تنهمر على خدّيه متوسّلًا رحمة ربّه، نائحًا. على خطيئته على مرأى من النّاس الّذين كان التّأثّر يبلغ بهم حدّ البكاء معه والتّضرّع إلى الرَّبّ من أجله. وقبل أن يمنحه القدّيس أمبروسيوس الحلّ من خطيئته ألزمه بإصدار مرسوم بإعطاء مهلة ثلاثين يومًا قبل تنفيذ أيّ قرار بمُصادرة أملاك أحد من النّاس أو الحكم عليه بالموت لئلّا يكون القرار المتّخذ بحقّه قد اتّخذ بتسرّع أو عن هوى.
إلى ذلك قيل أن ثيودوسيوس جاء إلى الكنيسة مرّة وكان الوقت أحد الأعياد الكبرى. فبعدما قدّم قربانه على حسب العادة المتّبعة بقي في حدود الهيكل حيث كان الإكليروس فسأله أمبروسيوس إذا كان يريد شيئًا، فقال: الاشتراك في القدسات! فبعث إليه برئيس شمامسته يقول له: “لا يحقّ، يا سيّدي، إلّا للإكليروس أن يقفوا في الهيكل. لذلك أسألك أن تخرج وتقف في مصاف الشّعب. الرّداء القرمزيّ يؤهّلك للإدارة ولا يؤهّلك للكهنوت”. فخرج ثيودوسيوس عن طيبة خاطر ووقف بين العامّة. ولمّا عاد إلى القسطنطينيّة بعد إقامة في الغرب استمرّت قرابة الثّلاث سنوات أبى أن يقف في الهيكل حيث كانت العادة هناك واكتفى بموضع خاصّ بين النّاس وكان يقول بتنهّد: “كم هو صعب عليّ أن أتعلّم الفرق بين الكهنوت والإمبراطوريّة! ها أنا مُحاط بالمتملّقين من كلّ صَوْب ولم أجد غير إنسان واحد قوّمني وقال لي الحقّ كلّه. أنا لا أعرف سوى أسقف أصيل واحد في المسكونة، وهذا الأسقف هو أمبروسيوس!”.
+ إشعاعه:
هذا ويذكر مترجم القدّيس أمبروسيوس أنّه أقام ميتًا في فلورنسا وطرد الأرواح الشّرّيرة من بعض النّاس وشفى عددًا من المرضى. كما جرى الكشف بهمّته عن رفات عدد من القدّيسين أمثال بروتاسيوس وجرفاسيرس ونازاريوس وكلسيرس. هؤلاء تعيّد لهم الكنيسة المقدّسة مجتمعين يوم الرّابع عشر من شهر تشرين الأوّل.
وقد سطع بهاء قداسة القدّيس أمبروسيوس في كلّ مكان حتّى إنّ بعض الفرس من ذوي الرّفعة أتوه مستبركين مسترشدين، كما أنّ شعبًا بربريًّا يعرف بـ “المركوماني” اهتدى إلى المسيحيّة بتأثير منه.
خلّف أمبروسيوس جيلًا من القدّيسين أمثال أوغسطينوس الّذي عمّده سنة387 م وبولينوس النّوليّ مترجمه وهو نوراتس وفيليكس.
وقد كان رقاده يوم الرّابع من نيسان سنة397 م، ليلة سبت النّور، عن عمر ناهز السّابعة والخمسين. أمّا عيده في السّابع من كانون الأوّل فلسيامته يحصى القدّيس أمبروسيوس في عداد آباء الكنيسة الغربيّة الأربعة الكبار بجانب كلّ من إيرونيموس وأوغسطينوس وغريغوريوس الكبير.