في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*الشّهيدة الجديدة القدّيسة البارّة الدوقة إليزابيث الموسكوفية مع رفيقتها بربارة في الجهاد*القدّيس البارّ أثناسيوس الآثوسيّ*القدّيس البارّ لامباذوس الإيصافريّ*الشّهداء باسيليوس وشهداء بيسان السّبعون *الجديد في الشّهداء كبريانوس الصّغير القسطنطينيّ*البارّان أثناسيوس وثيودوسيوس الرّوسيّان *القدّيس البارّ سرجيوس رادونيج.
* * *
✤القدّيس البارّ أثناسيوس الآثوسيّ ✤
وُلد القدّيس أثناسيوس الآثوسيّ حوالي العام 930 م. في تريبيزوند البنطس من والدين نبيلَين وأُعطي، في المعموديّة، اسم أبراميوس. تيتّم بعد قليل من مولده واحتضنته إحدى قريبات أمّه. لم يكن، كولد، يتعاطى الألعاب الصّاخبة بل اعتاد أن يسوق رفاقه إلى الغابة أو إلى إحدى المغاور ليلعب دور رئيس دير. لفت بتقدّمه السّريع في الدّرس والتّحليل انتباه أقربائه. وما إن بلغ سنّ المُراهقة حتّى لاحظه موظف ملكيّ كبير وفد على المدينة في مهمّة فمال إليه وأخذه معه إلى القسطنطينيّة. هناك تابع دروسه على معلّم مشهور اسمه أثناسيوس وصار أستاذًا مساعدًا رغم حداثته.
انكبابه على الآداب لم يحمله على إهمال الحياة النّسكيّة الّتي طالما أحبّها منذ ولادته. وقد استبان راهبًا حتّى قبل أن تأتي السّاعة وكذا مصارعًا حتّى قبل أن يدخل الحلبة. كان يجتنب المائدة السّخيّة في بيت راعيه ويستبدل الطّعام الّذي يأتيه به خادمان برغيف شعير يأكله مرّة كلّ يومين. لا يتمدّد لينام ويجاهد ضدّ النّعاس برشّ وجهه بالماء البارد. أمّا ملابسه فيوزّعها على الفقراء. ولمّا لم يعد له شيء يعطيه اعتاد أن ينتحي جانبًا ليتخلّص من بعض ملابسه الدّاخليّة.
كان التّلاميذ يأتون إليه من كلّ ناحية وكان آخرون ينجذبون بلطافته وسيرته المقدّسة وطابعه الإلهيّ. نقله الإمبراطور قسطنطين السّابع إلى مؤسّسة أخرى. ولكن إذ تعلّق به التّلاميذ بالأكثر، وحتّى لا يدخل ومعلّمه في خصام ويتسبّب له في عثرة قرّر أن يعتزل الأستاذيّة وكلّ همّ. كانت الكرامات لديه عارًا. لذا، إثر عودته إلى القسطنطينيّة بعد إقامة دامت ثلاث سنوات في ناحية البحر الإجي، برفقة راعيه، وصله هذا الأخير بأحد أنسبائه القدّيس ميخائيل ماليينوس (12 تمّوز) كان رئيس لافرا جبل كيميناس. وجد فيه أبراميوس ضالّته المنشودة فاتّخذه أبًا روحيًّا له وتبعه إلى جبل كيميناس حيث ترهّب واتّخذ اسم أثناسيوس.
لاحظ الشّيخ أنّ تلميذه الحدث الغيّور كان متقدّمًا في الممارسات النّسكيّة، فشاء أن يجعل منه جنديًّا ليسوع المسيح متمرِّسًا في الصّبر فلم يأذن له بأن يأكل مرّة في الأسبوع بل مرّة كلّ ثلاثة أيّام. كذلك أمره بأن ينام على حصيرة لا على مقعد كما كان مُعتادًا. إلى ذلك أسنَد إليه عملَ طاعةٍ النّسخَ ومعاونةَ القندلفت في الكنيسة. كلّ هذا وغيره خضع له عن طيب خاطر. غرض أبيه الرّوحيّ في تنشئته كان أن يعلّمه قطع المشيئة. لذا دعاه الآخرون “ابن الطّاعة”. وقد أبدى غيرة في السّيرة الرّهبانيّة حتّى بلغ، في أقلّ من أربع سنوات، نقاوة الذّهن. وإذ مَنّ عليه الرَّبّ الإله بعربون صلاة الذّهن أُهِّل لدخول ساحة الحياة الهدوئيّة. وقد وعده ميخائيل بالاعتزال في قلّاية صغيرة على بُعد ميل من الدّير تقريبًا وأن يعيش على الخبز الجاف والماء، كلّ يومين، وأن يمضي ليله كلّه في الصّلاة.
بعد ذلك بفترة قصيرة شرع ميخائيل يُطلع قومًا أنّ أثناسيوس إن هو إلّا وريثه في النّعمة وقيادة النّفوس. وإذ ظنّ بعض الرّهبان أنّه يرغب في جعله رئيس دير أخذوا يزعجونه بمدائحهم. أمّا هو فإذ أحبّ السّكون ونبذ كلّ كرامة فقد اختار، مرّة أخرى، التّواري. لم يحمل معه غير ملابسه وكتابَين وقبّعة الرّأس خاصّة أبيه الرّوحيّ. توجّه مباشرة إلى جبل آثوس حيث لم يكن غير بعض نسّاك يقيمون في أكواخ من أغصان الشّجر، غرباء عن كلّ همّ، لا يملكون شيئًا ويعملون في الأرض. أعجبته طريقة حياتهم وانضوى تحت لواء شيخ بسيط بعدما أخفى هوّيته مَن يكون مدّعيًا أنّ اسمه برنابا وأنّه لا يعرف القراءة والكتابة.
في ذلك الحين بحث عنه نيقيفوروس فوقاس وكان مُعجَبًا به، راغِبًا في الإنضواء تحت لوائه فلم يجده. كتب إلى قاضي تسالونيكي وطلب منه أن يستطلع خبره في جبل آثوس. بدوره اتّصل القاضي بالمُتقدّم استفانوس بين الرّهبان في الجبل فأجابه إنّه لا يعرف شيئًا عن وجود راهب له الصّفات الّتي نقلها إليه القاضي. وما إن حلّ عيد الميلاد واجتمع كلّ الآثوسيّين في سهرانة في الكنيسة المتواضعة للـ Protaton في كرياس حتّى لفت الرّئيسَ المظهرُ النّبيل للشّاب برنابا فأحسّ بأنّه هو إيّاه مَن يبحثون عنه. أمره بأن يقرأ عظة القدّيس غريغوريوس اللّاهوتيّ فشرع أثناسيوس يقرأها بلعثمة مصطنعة كأنّه ولد. فقال له الرّئيس أن يقرأ كما يعرف حقًّا ولا يتظاهر بأنّه جاهل. فإذ لم يعد بإمكان أثناسيوس أن يُخفي نفسه أخذ يقرأ بطريقة بديعة أثارت إعجاب كلّ الرّهبان فتقدّموا منه وضربوا له مطّانية. وقد تنبّأ أبرزهم، وهو بولس كْسيروبوتامو (28 تموز)، بأنّ هذا الّذي قدِم بعدهم إلى الجبل سوف يتقدّمهم في ملكوت الله وأنّ كلّ الرّهبان سوف ينضوون تحت لوائه. فأخذ الرّئيسُ أثناسيوسَ على حدة واستعلمه الحقيقة، ثمّ وعده بألّا يفضح أمره. ثمّ عيّن له قلاّية منعزلة على بعد ثلاثة فراسخ من كارياس حيث بإمكانه أن يُناجي الله وحده ولا ما يلهيه. وقد رضي القدّيس، في المُقابل، أن يوفّر حاجات الرّئيس لجهّة نسخ الكتب الكنسيّة، فأبدى من المهارة في عمله قدرًا جعله ينسخ، بكتابة أنيقة مرتّبة، كتاب مزامير كلّ أسبوع.
لم يكن ممكنًا للشّعلة أن تبقى مخفيّة على جبل. فلمّا قدم لاون فوقا، شقيق نيقيفوروس، في حجّ إلى آثوس شكرًا لله، بعد معركة ظافرة خاضها ضدّ البرابرة، نجح في كشف أثناسيوس. وإنّ الرّهبان الآثوسيّين، إذ رأوا المغبوط على هذا القدر من الرِّفعة لدى عليّة القوم، سألوه أن يتوسّط لدى لاون ليُصار إلى إعادة بناء كنيسة الـProtaton وتوسيعها. وقد حظي بما رغب به إلى لاون للحال. فلمّا استأذن صديقه القويّ عاد إلى خلوته. لكنّ إقبال الرّهبان عليه طلبًا للمشورة جعله يهرب من جديد ابتغاء السّكون. وقد اختار الرّأس الجنوبيّ للجبل، هذه المرّة، مكانًا قاحلًا تضربه الأهوية بتواتر اسمه ميلانا. هناك جرّبه إبليس بقسوة وسلّط كلّ أحابيله عليه ليُبطل نسكه، خصوصًا “حرب الضّجر”. وقد تسبّب العدو في إحداث جفاف روحيّ لدى القدّيس بلغ حدّ الإحباط الكامل حتّى تمنّى أن يغادر المكان. لكنّه قرّر الصّبر والجهاد إلى آخر السّنة. فلمّا وافاه اليوم الأخير، وكان يستعدّ لمغادرة ميلانا، بعدما أخفق في الخروج من التّجربة، فجأة اخترقه نور سماويّ ملأه فرحًا لا يوصف حتّى أخذت الدُّموع يذرفها، من ذلك اليوم، دون جهد، إلى آخر أيّام حياته. وهكذا بقدر ما كان هذا الموضع في عينيه شنيعًا صار لديه عزيزًا.
أمّا نيقيفوروس فوقاس فأضحى القائد الأعلى للجيش البيزنطي. وإذ كان أمامه أن يعتق كريت من العرب الّذين كانوا يقضّون مضاجع السّكّان هناك بأعمال القرصنة أوفد إلى كلّ المراكز الرّهبانيّة، في زمانه، لا سيّما إلى آثوس، بعدما علم من أخيه بوجود أثناسيوس، أبيه الرّوحيّ هناك، وطلب أن يُرسَل إليه رهبان قادرون على مؤازرته بصلاتهم. لم يشأ أثناسيوس، أوّل الأمر، أن يستجيب لأنّه لم يشأ أن يخرج من سكونه، لكنّ إصرار الرُّهبان عليه جعله ينضمّ إلى نيقيفوروس فوقاس في كريت بعد قليل من انتصار هذا الأخير على العرب. فرحة القائد العسكريّ كانت كبيرة بلقاء أبيه الرّوحيّ مرّة أخرى، ومرّة أخرى عبّر له عن رغبته في الانضمام إليه في الوقت المناسب. تحضيرًا لذلك توسّل إليه أن يباشر بإنشاء دير بقرب المنسك خاصّته. لم يشأ رجل الله أن يفعل ذلك أوّل الأمر لكنّه رضخ أخيرًا. وهكذا، بسرعة، بُنيت قلاّية على اسم السّابق قوامها قلال نسكيّة لأثناسيوس ونيقيفوروس. ثمّ ما لبثت عمارة كنيسة لوالدة الإله ولافرا تُشاد في الموضع المُسمّى “ميلانا” حيث افتقد الرَّبّ الإله أثناسيوس بنوره الإلهيّ يوم كان مشتمَلًا بروح الضّجر. يُشار إلى أنّ أثناسيوس أَعتَقَ، بنعمة الله والصّلاة، العمّال من الشّلل الّذي ضربهم إبليس به، فكانت النّتيجة أن قرّروا جميعًا أن يصيروا رهبانًا. وقد اقتبلهم أثناسيوس بعدما أخذ هو الإسكيم الكبير من ناسك في الجوار اسمه إشعياء.
في تلك السّنة (962 – 963) ضربت مجاعة رهيبة كلّ الإمبراطوريّة فانقطع تزويد اللّافرا بما تحتاج إليه. بإزاء ذلك قرّر أثناسيوس أن يطلب نصيحة الشّيوخ في كارياس. في الطّريق التقى والدة الإله الّتي أنبعت أمام عينيه نبع ماء فيّاض وأوصته ألّا يقلق لأنّها، هي نفسها، ستأخذ على عاتقها مهمّة تدبير الدّير. فلمّا عاد إلى خاصّته أبانت له الكليّة القداسة كلّ المخازن ممتلئة. هكذا بنعمة الله وصلاة القدّيس تقدّمت الأشغال بسرعة رغم انحدار الموضع وكلّه صخور وعلّيق كثيف. وإلى الكنيسة ذات الجناحَين في شكل صليب أُضيفت قاعة طعام ومضافة ومشفى فيه حمّام، وسدّ مياه وطاحونة وكلّ ما كان ضروريًّا لحياة دير كبير.
زاد عدد الرّهبان هناك بسرعة فاهتمّ القدّيس بتنظيم الشّركة ضابطًا، إلى أبعد التَّفاصيل، الخدم اللّيتورجيّة ورسوم الحياة اليوميّة على مثال دير ستوديون في القسطنطينيّة متمّمًا كلّ أمر بلياقة وترتيب ليتسنّى للرّهبان السّالكين في الفقر وقطع المشيئة أن يثابروا، بقلبٍ واحد، وبلا همّ على التَّمجيد الدّائم لله. بالنِّسبة للقدّيس أثناسيوس تمثّلت الحياة في الدّير بـ “النّظرة المشتركة إلى غاية الحياة الّتي هي الخلاص وأن يكوّن الرُّهبان، في حياة الشّركة، قلبًا واحدًا وإرادة واحدة. كذلك أن تشكّل الأخويّة برغبة واحدة، جسمًا واحدًا قوامه أعضاء كثيرة” (تيبيكون القدّيس أثناسيوس).
في تلك الأثناء تبوّأ نيقيفوروس فوقاس العرش سنة 963 م. فلمّا بلغ أثناسيوس الخبر اعتبر الأمر خيانة في حقّه فترك الدّير إلى قبرص متخفّيًا بعدما بعث برسل إلى الإمبراطور يخبره فيها بأنّه يستقيل من مهامه ويكلّف ثيودوتوس، أحد تلامذته، بمهامه في اللافرا. بحث عنه الإمبراطور في كلّ مكان، فاضطر إلى الهرب من قبرص من جديد باتّجاه سواحل آسيا الصّغرى، بقرب أتاليا. دير اللافرا، في ذلك الحين، ضربته البلبلة. ولم يعد أثناسيوس عن قراره إلّا بعدما أبان له الرَّبّ الإله في رؤيا حالة المكان الشّقيّة ودعاه إلى العودة. وبالفعل عاد فاستُقبل كالسّيّد في دخوله إلى أورشليم. هكذا استردّت اللافرا الحياة من جديد. بعد ذلك توجّه أثناسيوس إلى القسطنطينيّة. فلمّا قابله نيقيفوروس فوقاس بثياب بسيطة اعتذر لديه واستمهله ليحقّق وعده. لكن كان أثناسيوس قد عرف بروح الرَّبّ أنّ نيقيفوروس سيموت على العرش، لذا نصحه بالعدل والرَّحمة، ثمّ غادره مزوّدًا بمرسوم ملكيّ يعطي اللافرا صفة دير أمبراطوريّ ويوفّر له عطايا سنويّة جزيلة. كما أعطاه دير القدّيس أندراوس باريستارا، في نواحي تسالونيكي، بمثابة تابع له (متوخيون).
عاد قدّيسنا إلى آثوس واستعاد إدارة أشغال الدّير. ففيما كانت أشغال المرفأ قائمة جُرح في رجله واضطر إلى ملازمة الفراش ثلاث سنوات. فكانت له هذه الحال فرصة لانصراف إلى ربّه أعمق وكذا للعناية روحيًّا بالإخوة.
إثر موت نيقيفوروس فوقاس غيلة بيد يوحنّا تْسيميسكيس الّذي تبوّأ، إذ ذاك، العرش بين العامَين 969 و 976 م.، وفيما كان العاهل الجديد غير مرتاح البتّة للقدّيس أثناسيوس بسبب علاقته الحميمة بسلفه، اتّهم بعضُ نسّاك آثوس، من المُتمسِّكين بطريقتهم الخاصّة، أثناسيوسَ بتحويل الجبل المقدّس إلى مكان عالميّ. استدعى الإمبراطور أثناسيوسَ إلى القسطنطينيّة لينظر في الأمر. لكنّ أثناسيوس ترك في نفس الإمبراطور أثرًا كبيرًا لدرجة جعلته يغيِّر موقفه منه بالكامل ويزوّده بمرسوم ملكي جديد يخصّص للدّير عطاء يضاعف ما كان عليه في السّابق. ثم أوفد إلى آثوس أفتيميوس ستوديون لتهدئة الحال وإعطاء الجبل المقدّس أوّل تنظيم رسميّ له عُرف بـ Tragos وذلك سنة 972 م. من تلك اللّحظة صرنا نرى أديرة شركوية تحلّ محلّ الأكواخ. يومذاك تأسّست أديرة فاتوبيذي وإيفيرون ودوخياريو. النّسّاك والشّركويّون أخذوا، منذ ذلك الحين، بتبادل بركات الحياة الرّهبانيّة الّتي خبرها كلّ فريق: النّسّاك أكّدوا همّ السّكون والصّلاة المتواصلة والشّركويّون النّظام والانسجام في عهدة رئيس الدّير مقامًا وسط الجماعة صورةً للمسيح.
مذ ذاك أخذ نسّاك يغادرون قفارهم ورؤساء أديرةٍ أديارهم وأساقفةٌ كراسيهم لينضووا تحت لواء القدّيس أثناسيوس. كذلك أخذ طلاّب الرّهبنة يتدفّقون على آثوس قادمين من إيطاليا وكالابريا وإيبريا (جيورجيا) وأرمينيا. كما آثر نسّاك معروفون، نظير المغبوط نيقيفوروس العريان، التّخلّي عن شظف نسكهم لينتفعوا من تعليم القدّيس أثناسيوس ويجدوا الكمال بنسك الاتّضاع والطّاعة.
هذا وقد كانت صلاة القدّيس ضدّ الأبالسة قويّة لدرجة أنّ هؤلاء أحاطوا بالجبل المقدّس على نحو غير منظور دون أن يتمكّنوا من الرّهبان فيه، فيما استمرّوا، رغم ذلك، في مهاجمة أثناسيوس نفسه. وذات يوم أوحت الأبالسة إلى راهب مُتهاون بمحاولة قتله، فأخذ سيفًا وذهب إليه ليلًا. فلمّا دقّ على بابه فتح له القدّيس واحتضنه أبويًّا فترك المسكين السّيف يسقط من يده ونزل على رجلَيه أمام رجل الله واعترف بخطيئته. فسامحه القدّيس للتّوّ وأبدى له عطفًا كبيرًا فاق ما أبداه لبقيّة تلاميذه.
على هذا استبان القدّيس أثناسيوس الكلّ لكلّ واحدٍ، لرهبان الشّركة ولنسّاك الجوار وللحجّاج القادمين من كلّ صوب التماسًا في اللّافرا لشفاء النَّفس والجسد. ومع ذلك استمرّ مِقدامًا في جهاده النُّسكيّ وخلوده الدّائم إلى ربّه. في فترة الصّوم لم يكن يأكل شيئاً طيلة الأسبوع، وفي الأيام العاديّة كان نظامه الغذائيّ نظام الرّهبان الخاضعين لأكثر أعمال التّوبة صرامة. وحين كان يشترك في المائدة كان يوزّع حصّته حتّى لم يكن يتناول، من حيث لا يدري، سوى خبز البركة الّذي يُوزَّع في نهاية القدّاس الإلهيّ. الأوقات الّتي لم يكن يقضيها في التّعليم أو في تقبّل اعترافات تلاميذه كان يخصّصها للصّلاة سابحًا أبدًا في الدَّمع فيما كان منديله الشّخصيّ المُشْبَع بالدَّمع شفاء للمرضى في مناسبات عديدة. إلى ذلك كان خادمًا للجميع، خصوصًا للمَرضى، يحبّ الإقبال على الأشغال الّتي يأنف منها الآخرون. وكان يعتبر البرص الكنز الأكبر للافرا ويُسند الاهتمام بهم للمختَبَرين من تلاميذه. ومتى رقد أحد الرّهبان بالرَّبّ كان يدنو منه ويذرف عليه دمعًا سخيًّا، لا حزنًا عليه، كما لأهل العالم حزن، بل سؤلًا لخلاصه لدى الله. ثمّ متى كان ينصرف عنه كان وجهه يحمرّ كالنّار وهو يشكر الله لأنّه أتاح له أن يقرِّب تلميذًا له بمثابة ضحيّة مقبولة.
كانت الشّركة، أوّل الأمر، تقتصر، بناء لرغبة الإمبراطور، على ثمانين راهبًا، ثمّ زادت إلى مائة وعشرين في أواخر حياة أثناسيوس. في كلّ ذلك بقي القدّيس أبًا لكلّ واحد. يشجّع رهبانه على العمل اليدويّ اجتنابًا للتّواني والكسل، الّذي هو أب كلّ الرّذائل، مقدّمًا نفسه للجميع مثالًا طيِّبًا، بحيث كان أوّل المقبلين على الأشغال الشّاقة الّتي لمّا ينقطع خلالها إنشاد المزامير والتّملّح بملح الكلمة الإلهيّة. كان يعلّم أنّ هدف الحياة الرّهبانيّة في الكينوبيون (حياة الشّركة) هو إيّاه لدى النُّسّاك: “إعداد الذّات لاستنارة الرّوح القدس بتنقية الذّهن والنّفس والجسد”. ذات يوم قدم الرّاهب جيراسيموس إلى القلّاية الّتي وُجد فيها القدّيس مُعتزلًا فرأى وجهه مضطرمًا كأتون النّار، فارتدّ إلى الوراء مذعورًا. لكنّه لمّا دنا منه مرّة أخرى ألفاه مشعًّا محاطًا بدائرة ملائكيّة. وإذ عجز عن تمالك نفسه صرخ فأقسم عليه أثناسيوس ألّا يكشف الأمر لأحد.
هذه الدّالة لدى الله زوّدت القدّيس بحكمة إلهيّة سواء بالنّسبة لتعليم الجماعة أم بالنّسبة لإصلاح أخطاء الرّهبان. فحين كان يفرض على الإخوة قصاصًا ما كان يُخضع نفسه له هو أيضًا. ومع أنّه كان يبدو، في حضور الآخرين صارمًا مَهيبًا، فإنّه متى وُجد بين تلاميذه، على حدة أو لعمل خارجيّ، فإنّه دائمًا ما كان بسيطًا بَشوشًا وعلى حلاوة كبيرة.
شفى، بنعمة الله، مرضى عديدين بعدما كان يلجأ إلى الأعشاب الطّبيّة ليُخفي قوّة صلاته. وكثيرون من الّذين كانوا يأتونه باعترافهم بهوى ملحاح، كالغضب والحسد، كانوا يعودون أدراجهم معافَين بعد أن يكون القدّيس قد مسّهم بعصاه الرّعائيّة قائلًا: “اذهب بسلام، لا يضنينّك سوء!”
من جهة أخرى، وتلبيةً لحاجات الشّركة، جرى توسيع الكنيسة. تقدّم العمل سريعًا بفضل الهبات الملكيّة وعطايا أحبّة الله ولم يبق غير قبّة الكنيسة. فلمّا كان القدّيس قد تلقّى من الله إعلانًا بقرب نهاية سعيه على الأرض، وبعدما وعظ تلاميذه في لقاء أخير معهم، لبس ثيابه الاحتفاليّة وقبّعة القدّيس ميخائيل ماليينوس، الّتي كان يدّخرها للمناسبات الكبيرة، وارتقى الإسقالة لتفقّد الأشغال. كان ذلك في 5 تمّوز سنة 1001 م. فجأة انهارت القبّة على القدّيس وستّة من الرّهبان كانوا معه. خمسة منهم قضوا للتّوّ. فقط أثناسيوس ومعلّم البناء دانيال بقيا حيَّين تحت الأنقاض مهشّمَين. ولثلاث ساعات أمكن سماع صوت القدّيس يهمس: “المجد لكَ يا الله. أيّها الرَّبّ يسوع المسيح بادر إلى معونتي!” فلمّا نجح الرَّهبان في إخراجه من تحت الأنقاض كان قد توفّي ويداه مصلَّبتان على صدره مجروحًا في ساقه. بقي كأنّه نائم ثلاثة أيّام إلى أن حضر كلّ الآثوسيّين، بحدود الثّلاثة الآلاف، ليدفنوا أباهم وبطريركهم. من جرحه سال دم حار جمعه مَن كان حاضرًا وجرت به أشفية عدّة. مذ ذاك لم يكفّ القدّيس أثناسيوس عن الاستشفاع عجائبيًا بكلّ القادمين إلى ضريحه مكرّمين حيث كان قنديل مشتعلًا كلّ حين.
في 5 تمّوز سنة 1981، لمّا احتفل دير اللافرا الكبير بعودته إلى الحياة المشتركة، بعد قرون ساد فيه النّمط الايديوريتمي، إذا بسائل عطر يستبين على صفحة الزُّجاج الّذي يحفظ الإيقونة الّتي تغطّي الضّريح علامة على رضى القدّيس. بركاته تحلّ علينا.