في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
¯القدّيسة البارّة دومنيكة ¯القدّيس البار جاورجيوس الخوزيبي ¯القدّيس البار يوحنّا الهدوئيّ¯الشّهيد في الكهنة كرتاريوس القيصريّ¯الشّهيدان ثيوفيلوس الشّمّاس وهيلاديوس الليبيّان ¯الشّهداء يوليانوس وكلسيوس وأنطونيوس وأنسطاسيوس والشّهيدتان فاسيليسّا ومرسيونيللا مع الأولاد السّبعة والجنود العشرين ¯القدّيس البارّ إيليا المصريّ¯القدّيس البار أغاثون ¯القدّيس شمعيّا النّبيّ¯القدّيس أتيكوس بطريرك القسطنطينيّة ¯القدّيس كيروس بطريرك القسطنطينيّة ¯القدّيس البار ثيودوروس مؤسس دير الكورة في القسطنطينيّة ¯القدّيس البار مكاريوس ماكريس ¯الشّهيد أبو العطّار البغداديّ¯القدّيس البار غريغوري الكييفيّ الصّانع العجائب ¯القدّيس غريغوريوس أسقف أوخريدا البلغاريّة.
* * *
✤تذكار القدّيس البار يوحنّا الهدوئيّ✤
أصله ورهبنته
أصله من نيقوبوليس في أرمينيا. والداه، انكراتيوس وأوفيميا، كانا من علّية القَوْم، غزيرَي الثّروة، تقيَّين. أبصر النّور في 8 كانون الثّاني 454 م. إثر وفاة والدَيه أخذ نصيبه من الميراث وابتنى لنفسه كنيسة على اسم والدة الإله، ثمّ اعتزل هو وعشر من الفتية أترابه فيها وسلكوا في الحياة الرّهبانيّة المُشتركة. عمره يومذاك كان ثمانية عشر ربيعًا. يستفاد من سيرته أنّه كان شديد القسوة على نفسه، اهتمّ بضبط معدته واحتقر الغرور. كان يعلّم أنّ المعدة الملأى لا تساعد على السّهر والصّلاة ولا على حفظ العِفّة، وأنّه لا سبيل إلى النّسك الحقّ بغير الصّحو والطّهارة والتّواضع.
أسقفًا راهبًا
في الثّامنة والعشرين استدعاه متروبوليت سبسطيا، بعدما ذاع صيته، وجعله عنوة، أسقفًا على مدينة كولونيا. لم يشأ أن يغيّر طريقته النّسكيّة فكان راهبًا في الدار الأسقفيّة همّه نقاوة القلب وعفّة الجسد، سالكًا في الأصوام والأسهار والصّلوات، مستأسرًا كلّ فكر إلى طاعة المسيح.
هربًا من الأسقفيّة
ثبت يوحنّا في الأسقفيّة تسع سنوات فرّ بعدها من ضوضاء العالم ولولبيّته إلى المدينة المُقدّسة أورشليم. أقام حائرًا في بيت للغرباء، هناك، ردحًا من الزّمان، لا يعرف إلى أين يتّجه. صلّى كثيرًا بدموع ليُهديه الرَّبّ الإله إلى مكان يخلد فيه إلى الهدوء.
إلى الدّير الكبير
وذات ليلة، فيما كان يتمشّى في باحة الدّير تطلّع إلى السّماء فأبصر، فجأة، نجمًا مُضيئًا في شكلِ صليب يدنو منه، وصوت من النّجم يقول له: “إذا كنت ترغب في الخلاص فاتبع هذا الضّوء”. تحرّك يوحنّا، لتوّه، باتّجاه النّجم فتحرّك الضّوء أمامه وقاده إلى الدّير الكبير الّذي أسّسه البار سابا المُتقدّس (439 – 532 م). كان القدّيس سابا، آنئذ، على رأس مئة وخمسين ناسكًا يسلكون في فقر شديد، وهم ممتلئون من مواهب الرّوح. لم يشأ الرَّبّ الإله أن يكشف لرئيس الدّير هوّية القادم الجديد، فجعله في مَصاف المُبتدئين وأحاله على خادم الدّير ليكون تحت أمرته. كلّ ذلك كان ليوحنّا مُدعاة للفرح لأنّه لم يكن أطيب على قلبه من أن يكون مجهولًا من الجميع وخادمًا للجميع. أقام سنتين مُطيعًا للخادم والآباء، يؤدّي ما يكلّفونه به بغيرة واتضّاع كبيرين؛ يحضر لهم الماء ويطهو الطّعام للبنّائين ويهتمّ بالحجارة ومواد البناء الأخرى. بيت الضّيافة يومها كان في طور البناء، وكذلك دير الشّركة. إثر ذلك أعطاه القدّيس سابا قلاّية ليخلد فيها إلى الوحدة والهدوء. بقي ثلاث سنوات لا يغادر قلّايته إلّا أيّام السّبت والأحد، إلى الكنيسة، ليشترك وسائر النّسّاك في الصّلوات والقُدُسات. كانت توبته فائقة حتّى لم يكن يقوى على تمالك نفسه عن البكاء.
امتحان ناجح
ورغب القدّيس سابا في سيامة يوحنّا كاهنًا لمّا رآه عليه من فضيلة وكمال، فأخذه إلى المَدينة المُقدَّسة وعرضه على رئيس الأساقفة، إيليّا، معدّدًا له مزاياه. وفيما كان رئيس الأساقفة يستعدّ لوضع اليد على يوحنّا، قال له قدّيسنا: “أريد أن أخبرك، يا أبانا الجليل، أنّه قد سبق لي قبل مجيئي إلى الدّير أن ارتكبت خطايا أودّ أن أعترف بها لديك؛ فإذا حسبتني بعدها مستأهلًا للكهنوت فليكن كما تريد”. وأتاح له رئيس الأساقفة فرصة إبداء اعترافه، فقال له يوحنّا: “أتوسّل إلى قداستك أن تعفيني وألّا تكشف سرّي لأحد لئلّا تتسبّب في خروجي من هذا الدّير… فلقد سبق لي يا أبي أن كنت أسقفًا على إحدى المُدُن في أرمينيا؛ ثمّ لمّا رأيت تفاقم الشّرّ فررت من هناك وجئت إلى البرّيّة وانتظرت افتقاد إلهيّ. قلت في نفسي ما دمت قويّ البنية فلأخدم الآباء حتّى إذا فارقتني قوّتي لا أكون مُلامًا بل كما خدمتهم يخدمونني”. فلمّا سمع رئيس الأساقفة كلامه تعجّب واستدعى القدّيس سابا وقال له أن يترك يوحنّا وشأنه لأنّ ما لديه يحول دون صيرورته كاهنًا. ولمّا قال هذا صرفهما.
وحدة كاملة
نَعِم يوحنّا، بعد ذلك، بوحدة كاملة في الدّير حتّى لم يكن يخرج إلى الكنيسة ولا يكلّم أحدًا ما خلا ذاك الّذي كان يقوم بخدمته. دامت هذه الفترة من حياته أربع سنوات، خرج بعدها إلى برّية روبا المُتاخِمة للبحر الميت، إلى الغرب، بعدما تعرّض الدّير لاضطرابات داخليّة. استقرّ هناك، في مغارة، ستّ سنوات بعيدًا عن كلّ إنسان، مُنصرفًا إلى الهدوء الكامل والصّلاة المُتواصِلَة، يتمرَّس على السّير قُدُمًا من مجد إلى مجد في مراقي النّور الإلهيّ. كان لا يخرج من مغارته سوى مرّة كلّ يومين أو ثلاثة ليلتقط بعض الحشائش البرّيّة ويسدّ بها حاجة الجسد. وإذ خرج مرّة لهذا الغرض تاه: وبعدما استنفد قواه استسلم، فإذا به فجأة يرتفع في الفضاء، وتعيده قوّة العليّ إلى المغارة. كانت المسافة بين المكان والمغارة خمسة أميال.
من أخباره
يروى عنه أنّ أخًا من الرّهبان أتى إليه مرّة فأقام معه ناسكًا لبعض الوقت. وإذ قرب الفصح قال الأخ للشّيخ: “هيّا بنا يا أبي نصعد إلى الدّير الكبير لنشارك الآباء بهجة الفصح لأنّه ليس لنا هنا ما نأكله غير هذه الأعشاب البرّيّة”. فلم يجبه الشّيخ أوّل الأمر. ولمّا وجده مُصرًّا نصحه بأقوال كهذه: “لنحفظ الهدوء يا أخي وليكن عندك إيمان أنّ مَن عال الآلاف السّتمائة، في البرّيّة، أربعين سنة، سوف يبعث لنا لا بما نحتاج إليه وحسب بل بأكثر من ذلك. أليس هو القائل: لا أخيّبك ولا أتخلّ عنك؟ وفي الإنجيل، ألم يقل: لا تهتمّوا بما تأكلون ولا بما تشربون ولا بما تلبسون، لأنّ أباكم السّماويّ يعلم أنّكم تحتاجون إلى هذه كلّها. بل اطلبوا ملكوت السّماء وبرّ الله وكلّ ما عدا ذلك يُزاد لكم؟ تصَبَّر، يا بنيّ، واختر الطّريق الضّيّق لا الواسع، لأنّ إطلاق العنان للأهواء والرّغبات والشّهوات يُوَلِّدُ عِقابًا أبديًّا فيما الإماتة الحاضرة تُعدّنا للتّمتّع بالخيرات الأبديّة”. لم يقتنع الأخ بهذا الكلام بل قام فغادر الشّيخ إلى الدّير الكبير. وبعد قليل، حضر إنسان لم تكن للشّيخ به معرفة سابقة وكان معه حمار مُحَمَّل خيرات من الخبز الأبيض الطّازج والخمر والزّيت والجبن والبيض والعسل. أنزل الغريب هذه البركات من على الحمار ثمّ انصرف. فرح يوحنّا بالرّوح لهذا الافتقاد الإلهيّ فيما ضيّع الأخ طريقه وعاد إلى الشّيخ، في اليوم الثّالث، جائعًا مضنى. فلمّا عاين الخيرات أدرك عناده وقلّة إيمانه وطلب المغفرة بتوسّل على ركبتيه. فأقامه الشّيخ قائلًا له: “لقد كان هذا يا ابني لتعلم أنّ الله قادر أن يعدّ مائدة في البرّيّة”.
أسد وبرابرة
ومرّة أخرى تغلغل البرابرة في البرّيّة وأضحت الأديرة والمناسك كلّها في خطر، فأرسل الآباء إلى يوحنّا كلمة يقولون له فيها أن يترك مكانه ويأتي إلى الدّير الكبير، ولو إلى حين، فأبى قائلًا: “إن لم يكن الله حافظي فَلِمَ أعيش؟” قال هذا ولازم القفر. وعلى كلمة يوحنّا أرسل الله ملائكته إليه ليحفظوه. مع ذلك شعر يوحنّا ببعض الخوف فأرسل الله علامة مَنظورة ليثبّته في قصده، أسدًا هائلًا أضحى له حارسًا ومُرافقًا ليل نهار حتّى لا يجرؤ البرابرة على الدّنوّ منه. هكذا تمّت الكلمة الّتي قيلت في المزمور أنّ الله “لا يدع عصا الخطأة تستقرّ على نصيب الصّدّيقين”. وعاد القدّيس سابا إلى ديره بعد غياب ثمّ جاء إلى يوحنّا وقال له: “أترى، لقد حماك الله من مؤامرات البرابرة وثبّتك لمّا أرسل إليك حاميًا مَنظورًا. ولكن، كفاك الآن، قم اسلك كغيرك من النّاس واهرب كما هرب الآباء حتّى لا تقع في الغرور”. وإذ أرشده بكلام كهذا قام يوحنّا فعاد إلى الدّير الكبير، لا كمَن له حظوة عند الله بل كبقيّة النّسّاك.
خروج النفس من الجسد
وممّا يُحكى عنه أيضًا أنّه رغب مرّة في معرفة كيفيّة خروج النّفس من الجسد. وفيما كان يسأل الله بحرارة أنّ يمنّ عليه بذلك، إذا به يُخطَف بالرّوح إلى بيت لحم ويُعاين في رواق الكنيسة، هناك، رجلًا صدّيقًا لم يسبق له أن التقاه. هذا كان مَطروحًا على الأرض وعلى أهبّة الموت. وقد رأى يوحنّا نفس الرّجل تتلقّاها الملائكة وتحملها إلى السّماء مَصحوبة برائحة الطّيب والتّراتيل. وإذ عاد إلى نفسه اشتهى أن يرى بعينيه الحسّيتين ما إذا كان الأمر قد حدث كما رآه بروحه أم لا، فقام لساعته وسافر إلى بيت لحم، وجاء إلى الكنيسة فوجد الرّجل عينه مطروحًا حيث عاينه أوّلًا، فضمّه إلى صدره وتبرّك به وقام فدفنه ثمّ عاد إلى قلّايته.
لا بَرَكة للهراطقة
ومرّة جاء تلميذه ثيودوروس برجل هرطوقيّ إليه. وبعدما طرق على بابه وأطلّ الشّيخ، قال ثيودوروس بحركة عفويّة: “باركنا يا أبتي”. فأجاب الشّيخ: “أمّا أنت يا ثيودوروس فلك بَرَكتي، أمّا هذا الّذي معك فلا بَرَكة له حتّى يعود عن غيّه”.
زيارة في الحلم
ومن أخباره، أنّ إحدى شمّاسات الكنيسة العُظمى في القسطنطينيّة رغبت في رؤيته والتّبرّك به والتّحدّث إليه. ولما كان محظّرًا على النّساء دخول دير القدّيس سابا عزمت على التّخفّي بزيّ الرّجال. وإذ هي منهمكة في تدبير الأمر على هذا النّحو إذا بها تتلقّى رسالة من القدّيس يوحنّا يقول لها فيها أن لا تحاول المجيء إليه مُتخفّية لأنّه لن يراها. في مقابل ذلك أخبرها بأنّه سيزورها شخصيًّا، ولكن في الحلم. وهذا ما حدث بعد أيّام. جاء إليها في حلم اللّيل وتحدّث إليها وأخبرها بكلام الله.
بذرة في الصّخر
أخيرًا وليس آخرًا، قال القدّيس يوحنّا لتلميذَيه ثيودوروس ويوحنّا: “استمعا إليّ يا ولديّ! إذا أعطى الله لهذه البذرة في الصّخر أن تخرج ثمرًا فاعلما أنّه قد منحني موهبة ملكوت السّموات”. قال هذا وألصق بذرة تين في الصّخر المجدّب الّذي لا أثر فيه للحياة أو الرّطوبة أو التّربة، فوق قلاّيته. وكان العَجَب. فكما أفرخت عصا هرون اليابسة وأزهرت زهرًا وأنضجت لَوْزًا (عدد 17: 8 – 9)، هكذا حصل لبذرة التّين في الصّخر: أنتشت وأورقت وأزهرت وعقدت وأثمرت ثلاث تينات. هذه أخذها الشّيخ بدموع وأكلها شاكرًا الله على عظيم حنانه، وأعطى تلميذَيه قليلًا منها. مذ ذاك أخذ يعدّ نفسه للرّحيل. وقد رقد بسلام في الرَّبّ، مُمتلئًا نعمةً، وهو في الرّابعة بعد المائة، في الثّامن من شهر كانون الثّاني من العام 558 للميلاد.