في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
* القدّيس البار بولس الصّعيديّ النّاسك الأوّل * القدّيس البار يوحنّا الكّوخيّ* الشّهيد بنسوفيوس الإسكندريّ ورفقته * القدّيس البار قوزما المنشىء * الرّهبان السّتّة المجهولة أسماؤهم * القدّيس البار غفرائيل مؤسس دير لسنوف البلغاريّ* القدّيس البار برخوروس مؤسس دير فرانسكي البلغاريّ.
* * *
✤تذكارالقدّيس البار يوحنّا الكّوخيّ✤
وُلد يوحنّا في مدينة القسطنطينيّة لأبوين من علّيّة القوم. كان أبوه أفتروبيوس من كبار قادة الجيش وأمّه ثيوذوره من السّيّدات الكريمات. كما كان له أخ واحد.
كان بيت يوحنّا تقيًّا بعامّة، لكنّ مظاهر التّرف والرّفعة احتفّت به من كلّ جانب. فحدث، ذات مرّة، أنّ قدم راهب من دير الّذين لا ينامون، بقرب المدينة المُتملّكة، لزيارة أفتروبيوس وعائلته. البيت كان مفتوحًا لرجال الكنيسة والرّهبان. فتعلّق قلب يوحنّا بالرّاهِب ورغب في سيرة كسيرته.
حدّث الرّاهب يوحنّا عن الحياة الرّهبانيّة وأعطاه قانون صلاة، فعزم يوحنّا على الخروج من العالم إلى الدّير في وقتٍ مُناسب. كان لا بدّ أن يكون الأمر سرًّا لأنّ والدي الشّاب لا يمكن أن يرضيا بذلك من ذاتهما.
وبانتظار السّاعة المُرتقبة، شرع يوحنّا يتعاطى الصّوم والسّهر ويقضي أكثر وقته في الكنيسة؛ كما رغب إلى والديه أن يشتريا له نسخة من العهد الجديد فجاءاه بنسخة جميلة مزخرفة منه. فلمّا عاد الرّاهب من سفره، وكان إلى أورشليم، رافقه يوحنّا إلى ديره سرًّا. وإذ فطن ذووه إلى غيابه بحثوا عنه في كلّ مكان فلم يجدوه.
وصل يوحنّا إلى دير الّذين لا ينامون فلاحظه الرّئيس صغير السّنّ، طريّ العود، ناعم البدن فتردّد في قبوله. فلما رآه مصرًّا وافق على ضمّه على الدّير على أساس تجريبيّ.
ثمّ دلّت الخبرة على أنّ يوحنّا كان أصيلًا في رغبته، مُجدًّا في سعيه، يكلّف نفسه أقسى الجهادات على غير ما يُتوقّع من شاب في مثل سنّه خرج لتوّه من مجتمع العزّ والدّلال. فلقد تشدّد الشّاب في أصوامه على غير هوادة وسلك في التّواضع وضبط النّفس والطّاعة لدرجة أنّه أضحى لأقرانه مثالًا يُحتذى.
ونزلت بيوحنّا تجربة قاسية شاءها الرَّبّ الإله تمحيصًا له ولأمانته. فلقد اشتدّت عليه أفكار العودة إلى والديه واستبدّ به الحزن على ما يمكن أن يكون قد حدث لهما. وعبثًا حاول أن يدفع عن نفسه هذه الأفكار بالصّوم والصّلاة والسّجود والرّكوع والاعتراف. كانت تلحّ عليه وتأبى أن تغادره. بقي على هذه الحال زمانًا ذات خلاله جسمه وهزل عوده، لكن بقيت نفسه قويّة وصمد. فلمّا لم تنحلّ التّجربة عنه، عزم على الخروج من الدّير. فلمّا أطلع رئيس ديره على ما في نفسه حاول ثنيه عن عزمه فلم ينجح. وإذ رآه في حال الذّبول المُتزايد صلّى عليه وتركه يذهب.
لم يكن في نيّة المجاهد الشّاب أن يستسلم للتّجربة بل أن يجعل منها سببًا لجهاد بطوليّ قلّ نظيره. فلقد بيّنت الأيّام أنّ أمانة يوحنّا لربّه كانت كاملة، كما جعلته نعمة الله أصلب من الماس.
فماذا حدث؟
في الطّريق التّقى يوحنّا شحّاذًا فتبادل وإيّاه الأثواب. وإذ كان التّعب قد أضناه وغيّرت ملامحه السّنون بدت إمكانيّة تعرُّف أحد عليه مُستبعدة.
بلغ قصر أبيه فجلس عند الباب الخارجيّ يستعطي. مرّ والده من أمامه فتحرّكت عاطفته وبكى، لكنّه تمالك نفسه وطلب صدقة. وإذ كان أبوه لا يردّ فقيرًا أمر بإعطائه طعامًا.
لازم يوحنّا الباب أيّامًا يُشاهد أباه يدخل ويخرج، ويعاين أمّه تخرج إلى الحديقة وتدخل إلى المنزل، فآلمه المشهد أشدّ الألم، لكنّه أبى، بنعمة الله، أن يخرج عن صمته.
وقليلًا قليلًا اعتاد أبوه رؤيته فألفه. وسأل يوحنّا صاحب القصر أن يأذن له ببناء كوخ في زاوية الحديقة يخلد فيه إلى النّسك والصّلاة فأجابه إلى طلبه.
أقام القدّيس في الكوخ ثلاث سنوات، لا يمرّ عليه يوم إلّا يذوق فيه طعم الجحيم. ولكن لا شيء زعزع فيه ثباته الدّاخليّ. هذه كانت جلجلته اقتبلها عن طيب خاطر أمانة لله وشهادة لوجهه. “لتكن لا مشيئتي بل مشيئتك”.
أخيرًا حان ميعاد إنصافه فأُوحي إليه في الحلم أنّه في ثلاثة أيّام يخرج إلى ربّه ففرح بدنوّ أجله وأخذ يستعدّ بالأكثر لملاقاة وجه ربّه. فلمّا أتت السّاعة طلب أن يرى والدته، فأنكرت عليه طلبه ثمّ أذعنت. وما أن حضرت حتّى دفع إليها بنسخة العهد الجديد الّتي طالما حفظها بحوزته كلّ هذه الأيّام. فلمّا وقع نظر أمّه عليها ارتبكت وصرخت فأتى زوجها فتحقّق كلاهما منها أنّها هي إيّاها النّسخة الّتي سبق أن اشترياها لابنهما الحبيب يوحنّا. فألحّا بالسّؤال على النّاسك الشحّاذ فاعترف ولم ينكر أنّه هو إيّاه ابنهما يوحنّا. فانطرحا عليه يقبّلانه وهما ينتحبان. كان المشهد صعبًا للغاية. أخيرًا طلب من أبويه أن يصفحا عنه وسألهما أن يدفناه كراهبٍ صغيرٍ، وبعدما ودّعهما وأسلم الرّوح. كان قد بلغ من العمر الثّانية والعشرين.
وقد ذكر أنّ كنيسة بُنيت في موضع الكوخ وأنّ جملة عجائب جرت فيها بشفاعة رجل الله. كما ورد أنّ كنيسة بنيت له في رومية في القرن التّاسع للميلاد ضمّت رفاته إلّا هامته الّتي بقيت في القسطنطينيّة إلى أن سقطت في أيدي اللّاتين سنة 1204 م. وتستقرّ هامة القدّيس اليوم في كنيسة القدّيس استفانوس في بزونسون في بورغندي، وعلى الصّندوق الّذي يضمّها كتابة باليونانيّة.