في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*الشّهيد لاونديوس الطّرابلسيّ*الشّهيد إيثيريوس *القدّيس البارّ إيرازموس *الشّهيدان القبرصيّان *القدّيس البارّ لاونديوس الرّاعي *القدّيس البارّ لاونديوس الآثوسيّ المفيض الطّيب *القدّيس البارّ لاونديوس الكييفيّ*الشّهداء في الكهنة الرُّوس الجدد سرجيوس كروتكوف وباسيل سميرنوف وألكسندر غروتيتسكي وباسيل كريلوف.
* * *
✤الشّهيد لاونديوس الطّرابلسيّ✤
بين النُّصوص اليونانيّة والنُّصوص السّريانيّة الّتي تورد حياة القدّيس لاونديوس واستشهاده فرق كبير. زبدة ما تتّفق في شأنه المجموعتان أنّ لاونديوس كان جنديًّا مسيحيًّا في الجيش الرُّومانيّ قضى من أجل الإيمان بعدما قاسى عذابات مُرَّة في مدينة طرابلس الفينيقيّة. تاريخ استشهاده ليس واحدًا. ففيما تعيده المصادر اليونانيّة إلى زمن الإمبراطور الرّومانيّ فاسباسيانوس (69– 79) يُعيده السِّنكسار الحبشيّ إلى زمن الإمبراطور ذيوكليسيانوس، بين العامين 303 و 311 م. ثمّة مَن يقول إنّه مات في السِّجن من جرّاء التَّعذيب وثمّة مَن يقول إنّه استُشهد بقطع الهامَة. اليوم الّذي كان يحتفل فيه بعيده عندنا، في الماضي، هو الثّامِن عشر من حزيران، فيما يجعله السّنكسار الحبشيّ في 29 تموز. وهناك تاريخ آخر ورد كان يُعيَّد فيه لتكريس كنيسته في طرابلس، السّادس والعشرون من أيّار. في شأن تعذيب القدّيس ورد في بعض النّصوص أنّه أُنزل بعد الضّرب المبرّح إلى البحر لكي يُحرِقَ الملحُ جراحه. السّيرة السّريانيّة تذكر، موضعًا في ميناء طرابلس تسمّيه كراتر (Crater) جرى له فيه ذلك. اللَّفظة تعني في اليونانيّة “حوضًا في الصَّخر”. أحد الدَّارسين لا يستبعد أن تكون كراتر هي اليوم حيّ الشّيخ عفّان.
إلى ذلك تذكر النّصوص اليونانيّة رفيقين للاونديوس قضيا معه: هيباتيوس وثيوذولوس. لكنّ روايات أخرى تجعل له رفيقًا هو بوبليوس. وثمّة مَن يعتبر لاونديوس الطّرابلسيّ هو إيّاه لاونديوس العربيّ (الأقباط). لكنّ هذا الأخير، في ظنّ الدّارِسين، قضى شهيدًا في طرابلس الإفريقيّة.
أمّا الموطن الأصليّ للقدّيس لاونديوس فسيرتاه السّريانيّة والكُرجيّة تجعلاه من بلاد اليونان.
هذا ويقترن باسم القدّيس اسم سيّدة تقيّة يَدعوها بعض النُّصوص يوانيا كانت مقتدرة وغنيّة. هذه أتت إلى مكان استشهاده وأعطت حرّاس السِّجن والجنود مالًا كثيرًا مُقابِل جسد القدّيس. قيل حملته إلى بيتها وبعد أن ألبسته ثيابًا جميلة لفّته بكَفَنٍ مِن ذهب وجعلته في ضريح في حديقتها أمامه مصباح لا ينطفئ، والحديقة، على ما قيل، خارج أسوار المدينة. بعد ذلك عمدت المرأة وزوجها المدعوّ مافروس إلى إقامة صرح للقدّيس في مكان كان معبدًا للأوثان (السّيرة السّريانيّة).
مزار القدّيس في القرنين الخامس والسّادس كان مِن أبرز مزارات البلاد السّوريّة. كان الحجّاج يفدون إليه مِن كلّ صَوْب كـ “طبيب للأجساد والأرواح”. وثمّة، في سيره، مَن يجعله، في هذا الإطار، في صِراع مع إله الطّبّ، أسكلابيوس. كذلك ورد أنّه أخرس، بنبوءاته والرُّؤى اللّيلية الّتي افتقد بها العديدين، الإله زفس البعلبكيّ. كلّ هذا يشير إلى أنّ الوثنيّة بقيت قويّة حتّى إلى القرن الخامس والسّادِس وأنّ لاونديوس كان أحد القدّيسين الّذين احتلّوا في الوجدان مكانًا بَديلًا عن الآلهة الوثنيّة.
من جهةٍ أخرى يُشير ثيودوريتوس القورشيّ في كتابه “معالجة الأمراض الهلّينيّة” إلى “مآدب عامّة كانت تُقام على شرف لاونديوس وتطوافات وأغانٍ مَديحيّة وتراتيل إلهيّة وخطبًا مُقدّسة وصلاة ترافقها الدّموع المؤثّرة”، ممّا يدلّ على حلول الاحتفالات المسيحيّة محلّ الأعياد الوثنيّة لدى المؤمنين.
أخيرًا نُشير إلى أنّ دراسة قيِّمة عن معبد الشَّهيد القدّيس لاونديوس في طرابلس نُشرت على صفحات مجلّة النُّور الأرثوذكسيّة في العَددين الأوّل والثّاني من السَّنة التّاسعة والثّلاثين (1983). من هذه الدِّراسة استمددنا بعض مادَّتنا هنا.
أمّا السّيرة كما وردت في النُّصوص اليونانيّة فدونك أهمّ ما جاء فيها. كان القدّيس لاونديوس جنديًّا في الجيش الرُّوميّ زمن الإمبراطور الرّومانيّ فاسباسيانوس (69– 79). امتاز بالبَسالة. في الثّكنة العسكريّة في طرابلس الفينيقيّة اعتاد أن يوزّع المؤن العسكريّة على الفقراء ولا يخفي تقواه من أجل المسيح ويدين عبادة الأصنام. بلغ خبره حاكم فينيقية المُسَمَّى أدريانوس الّذي كان غيّورًا على عبادة الأوثان. هذا كان قد حصل من الإمبراطور على إذن بالفتك بتلاميذ المسيح. فأرسل إلى طرابلس كوكبة من الجند بقيادة هيباتيوس القاضي مهمَّتها إلقاء القبض على لاونديوس وسجنه إلى حين وصوله. فلمّا بلغ هيباتيوس مشارف المدينة انتابته حمّى شديدة. في تلك اللّيلة ظهر له ملاك قائلًا: “إذا أردت أن تبرأ فادعُ إله لاونديوس” ثمّ توارى. فعل هيباتيوس كما قيل له فتعافى.
في اليوم التّالي دخل هيباتيوس المدينة صحبة جنديّ اسمه ثيوذولوس. التقيا لاونديوس فحيّاهما ببشاشة. وإذ قدّم نفسه باعتباره صديقًا للرَّجل الّذي جاءا يبحثان عنه دعاهما إلى بيته. بعد أن قدّم لهما ضيافة طيِّبة كشف لهما أنّه لاونديوس بالذّات، جنديّ المسيح. وقع الإثنان، إذ ذاك، عند رجليه ورجياه أن يخلّصهما من نجاسة الأصنام بإتْحادهما بالمسيح. صلّى لاونديوس من أجلهما، فإذا بغيمة تظهر في السّماء وتسكب عليهما الماء اللّازم لمعموديّتهما. بعدما استنارا، على هذا النّحو، مشيا في المدينة لابِسَين البياض ويحمل كلّ منهما شمعة. أثار المشهد الوثنيّين. فلمّا وصل أدريانوس الحاكم بعد يَومين عمد إلى إيقاف الثّلاثة وسجنهم. شدّد لاونديوس رفيقيه بكلام الحياة الأبديّة وكانوا يقضون اللّيل في الصّلاة وإنشاد المزامير.
في الصّباح مَثَل الثّلاثة أمام أدريانوس. صرّح لاونديوس أنّه ابن النّور الحقّ الّذي لا شيء يقاومه وأنّه جنديّ المسيح. اغتاظ القاضي فأمر بتحطيم عظامه جلدًا. بقي القدّيس لا يتزعزع فأُعيد إلى السِّجن. نادى أدريانوس، إذ ذاك، هيباتيوس وثيوذولوس وسألهما لماذا خانا قيصر فجأة. أجاباه أنّهما التحقا بجيش الملك السّماويّ وأنّه لا شيء في العالم يجعلهما يعودان إلى عبادة الأصنام الباطلة. على الأثر سُلِّما للتَّعذيب وجرى قطع هامتيهما.
وخلال استنطاق جديد، هُدِّد لاونديوس بمكابدة ذات العذابات الّتي كابدها رفيقاه فأجاب أنّ هذه العذابات هي إكليل لهم وختم لظفرهم الأبديّ. مُدِّد على الأرض وضُرب بالسّياط. جواب لاونديوس للحاكم كان: “بإمكانك أن ترهق جسدي لكنّك لا تقوى على نفسي”. سلخوه وجعلوا حجرًا ثقيلًا في عنقه ثمّ ردّوه إلى السَّجن من جديد. فيما كان يصلّي في اللّيل جاءه ملاك الربّ فعزّاه وشجّعه على الثبات إلى النهاية.
في اليوم التالي أبدى لاونديوس العزم نفسه رغم التَّعذيب. أشبعوه ضربًا من جديد. أسلم روحه تحت الضّرب وهو يسبِّح الله. جعل مؤمنون جسده بقرب ميناء طرابلس حيث شُيِّدت، فيما بعد، بازيليكا بديعة إكرامًا له. إلى هذه الكنيسة كانت الجموع تفد لتكرم ضريحه من كلّ صَوْب. صار لاونديوس أكثر القدّيسين إكرامًا في فينيقيا وأحد أكثر القدّيسين المشهورين في كلّ الشّرق المسيحيّ.