في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
* القدّيس البارّ ثيودوروس السّيقيّ* الشّهيد نيارخوس * القدّيس الرّسول نثنائيل * الشّهيد ليونيدس الإسكندريّ* الشّهيدان أبيبوديوس وألكسندروس الليّونيّان * القدّيس البارّ روفينوس النّاسك الإيرلنديّ.
* * *
✤القدّيس البارّ ثيودوروس السّيقي✤
أبصر القدّيس ثيودوروس النّور في زمن الإمبراطور البيزنطيّ يوستنيانوس قيصر. وهو ابن زنى لامرأة اسمها مريم دخل عليها رسول قيصريّ أمضى ليلته في فندق عابرًا بقرية تدعى “سيقة”، في منطقة أنقرة الغلاطيّة في آسيا الصّغرى. وإذ شاء الرَّبّ الإله أن يُخرج الطّاهر من النّجس (أيّوب 14: 4) اختار ثيودوروس إناءً له تأكيدًا لقول الرَّسول المُصطفى بولس في 1 كورنثوس: “اختار الله أدنياء العالم والمُزدرى وغير الموجود ليُبطِلَ الموجود لكي لا يفتخر كلّ ذي جسد أمامه” (28- 29). من هنا تسميته “ثيودوروس” أي “هبة الله”. وقد أعطى الرَّبّ أمّ الولد إشارة تابت على أثرها وسلكت بمخافة الله.
نعمة الله استقرّت على ثيودوروس منذ الطّفوليّة. وإذ شاءت أمّه أن تجعله في خدمة الملك، وهو بعد في السّادسة، ظهر القدّيس جاورجيوس وأعلن لها أنّ ملك السّموات بحاجة إليه.
أُرسل الولد إلى المدرسة فأبدى مُيولًا مُمتازة للدّرس والمعرفة، وقد أحبّه رفاقه دون أن يتمكّنوا من استدراجه إلى الاشتراك في دُعاباتهم. تحرّكت الغيرة الإلهيّة في قلبه بتأثير خادم تقيّ فاضل كان لهم. من هذا الخادم تعلّم الصّبيّ الصّوم فصار لا يأكل إلّا القليل القليل. لعب القدّيس جاورجيوس دورًا بارزًا في حياته. فإنّ كنيسة صغيرة على اسم القدّيس كانت على تلّة في الجوار. إلى هذه الكنيسة كان يظهر القدّيس لثيودوروس، بصورة فتى، ويدعوه للصّلاة والتّأمّل في الكتاب المُقدّس بصمت. فمتى حلّ المساء كان الصبيّ يزور الكنائس، ثم يعود إلى المنزل متأخّرًا ليتناول بعض القمح المَسلوق. مرّات أخرى كان يأتيه القدّيس جاورجيوس في نصف اللّيل ويأخذه إلى الكنيسة ليُحيي اللّيل ساهرًا في الصّلاة. وقد حاولت الأم أن تقف في وجه الصّبيّ مرّات فظهر لها القدّيس جاورجيوس ومنعها طالبًا منها أن تترك الصّبيّ وحاله لأنّ الرَّبّ الإله هو الّذي يهتمّ بأمره. من ذلك الوقت تُرك الصّبيّ ليتقدّم في مراقي الحياة النُّسكيّة على سجيّته، وفق عمل النّعمة الإلهيّة فيه.
شرع ثيودوروس يُمضي الأوقات الطّوال في الصّمت والخلوة، أمام الله وحده. على هذا النّحو أخذ يتمرّس في الجهاد ضدّ تجارب إبليس. كلّ قصده كان أن يعدو إلى السّيّد الّذي صار له قدوة. كان يسلك في إثره نظير الصّيّاد وراء طريدته، مذلّلًا توثّبات جسده كما لو كان جسده غريبًا عنه. ولمّا بذل أتعابًا، في حفظ المزامير، عن ظهر قلب، ولمّا يُفلح توسّل إلى الرَّبّ الإله أن يُبادر إلى معونته، فأعانه وتمّ له ما أراد في أيّام قليلة. كان مُعتادًا، كلّما سمع عن أحد رجال الله، أن يذهب إليه ويستطلع عن نمط حياته لتكون له منه بركة ومعرفة.
في سنّ الخامسة عشرة، قرّر ثيودوروس أن يمضي حياته في كنيسة القدّيس جاورجيوس. لهذا احتفر لنفسه دون المذبح سردابًا للدّفن حيث رغب في أن يُقيم في عزلة تامّة، من الظّهور الإلهيّ إلى أحد الشّعانين لا يقتات سوى من بعض الفاكهة يومَيْ السّبت والأحد. وقد مَنّ عليه القدّيس جاورجيوس، بنعمة الله، بالقدرة على شفاء المرضى وطرد الشّياطين. وقد ورد أنّ الشّياطين كانت تغادر ضحاياها وهي تصرخ: “ويل لنا لأنّنا نُطرد من رضيع! شقاء عظيم سوف يحلّ بنا بسبب هذا المولود، ابن البغي!”.
ولكي يجتنب ثيودوروس الصّيت الطّيّب ويمضي في ارتقاء سلّم الفضائل فإنّه احتفر لنفسه في الجبل سردابًا حيث بقي مُتواريًا لا يدري بأمره أحد طيلة سنتين كاملتين. أخيرًا تمكّنت أمّه من اكتشاف مكانه فأعادته إلى كنيسة القدّيس جاورجيوس كمثل أيّوب جديد، تغطّيه الجراح الّتي استوطن فيها الدود. لمّا علم أسقف أناستاسيوبوليس بمآثر هذا الحَدَث بادر إلى المجيء إليه بسرعة. ومن غير أن يحسب للقوانين الكنسية حسابًا أضفى عليه الرّتب الكنسيّة، حتّى الكهنوت. في وجدان الأسقف، يومذاك، أنّه لا يجوز حرمان شعب الله من بركة رجل كرجل الله ثيودوروس. يُذكر أن قدّيسنا، آنذاك، كان في الثّامنة عشرة من عمره.
مذ ذاك ازداد ثيودوروس تشدّدًا في نسكه. حجّ إلى أورشليم على قدميه وزار الأديرة ونسّاك البريّة واقتبل الثّوب الرّهبانيّ المُقدّس في دير الخوزيبا. فلمّا عاد إلى غلاطية قدم إليه تلميذان وسألاه الانضمام إليه في كنيسة القدّيس جاورجيوس. هذا وقد تلألأت النّعمة في قدّيس الله كما في موسى آخر فأخذ يشفي المرضى ويطرد الشّياطين من الّذين كانوا يقبلون إليه. وما لبث نسكه أن أخذ شكلًا لافتًا فصنع لنفسه قفصًا حديديًّا ضيّقًا شرع يقضي فيه خلوة صومه الكبير. وقد علّق في عنقه صليبًا حديديًّا ثقيلًا وثبّت في معصميه ورجليه حلقات معدنية رافقته حتّى إلى قبره. في قفصه تحدّى الطّبيعة البشريّة فكان يقف إلى المساء بلا حراك يرفع التّسابيح إلى ربّه في العراء. وقد كان يحدث له، أحيانًا، في سعيه الفذّ هذا أن تلتصق قدماه، في أيّام الجليد، باللّوحة الخشبيّة الّتي كان يقف عليها. أحيانًا أخرى كان يغمى عليه من تعرّضه لوهج الشّمس. كلّ هذا لم يكن ثيودوروس ليفعله من قبيل الجسارة المتهوِّرة بل إخضاعًا لذاته بالكامل لربّه بحيث لا يحول ضعف البشرة ولا قسوة الطّبيعة دون مُتابَعَة صلاته الدّائمة إلى ربّه والتصاق ذهنه به. شوقه إلى يسوع كان أكبر من إناء الجسد وأعنف من توثباته، لذا استبان آية للعالمين. وقد مَنّ عليه ربّه بالمزيد من أنعامه فكانت الحيوانات تدنو إليه بسلام، وهو في قفصه، لتتلقّى من يده بعض الحلوى. ولو تجاسرت الأبالسة على الانقضاض عليه لكان نصيبها نارًا إلهيّة تخرج من شخص رجل الله وتحرقها.
ولم تكن طاقة ثيودوروس بلا حدود، فإن ربّه لكي يحفظه من كلّ شبه فكر استكبار كان يسلّمه، أحيانًا، لضعفه ليعرف مقاسه وأنّ ما يأتيه إنّما يأتيه بنعمةٍ من فَوْق. مرّة مرض مرضًا شديدًا أدناه من الموت فجعل يبكي بكاءً حارًّا حاسبًا نفسه قاصرًا عن إتمام توبته إلى ربّه. ثمّ في الوقت الموافق شفاه القدّيسان قوزما وداميانوس فعاد إلى ممارسة إمساكه بحميّة متزايدة، وعاد أيضًا إلى تعاطي الإرشاد الرّوحيّ.
نمت الأخويّة حوله نموًّا ملحوظًا كما التمس عدد من الّذين كان بِهِم مَسّ وشُفوا البقاء معه. على هذا ضاق المكان بمن فيه فجرى بناء كنيسة جميلة حملت اسم رئيس الملائكة ميخائيل. وقد عيّن ثيودوروس تلميذه فيلومينوس على رأس الشّركة. أمّا هو فاستمرّ في سَعيه وأضحت صلاته العجائبيّة بركة تلك النّاحية بصورة مميّزة. وقد سجّل كاتب سيرته أنّ الدّنيا، بصلاة القدّيس، كانت تُمطر في زمن القحط وأنّ النّهر، في سيره، كان يتأدّب فلا يتشامخ ويهدّد بإحداث الفيضانات في تلك الأنحاء. وإلى صلاة ثيودوروس وبركته كان الجراد يمتنع عن أذيّة المزروعات. الحصاد والمواسم كانت بِمَأمن من أخطار الطّبيعة. حتّى الطّحين، في أوقات الشّحّ، كان يتكاثر. كان يشفي المرضى ويطرد الشّياطين مِمَّن كانوا يقصدونه ويلازمون الكنيسة أيامًا في انتظار المنّة الإلهيّة.
استمرّ ثيودوروس على هذه الحال إلى وفاة أسقف أناستاسيوبوليس. يومذاك جاء الكهنة والأعيان إلى متروبوليت أنقرة وطالبوا لديه بتعيين رجل الله أسقفًا عليهم. إثر ذلك حُمل ثيودوروس عنوة إلى أنقرة حيث جرت سيامته. مذ ذاك شعّ كنجم في سماء أبرشيته لعجائبه وإحساناته وتوجيهاته الرّوحيّة. كان الكلّ للجميع، مثالًا حيًّا يُحتذى للكمال الإنجيليّ. فلمّا أثقلت عليه مسؤوليّة الأسقفيّة وحرمته الهمّ الرّهبانيّ المَغبوط بدأ يحلم بالاستقالة. وإذ خرج في حجّ إلى أورشليم رغب في البقاء هناك، في السّكون، لكن ظهر له القدّيس جاورجيوس مذكّرًا إيّاه بواجباته وواعِدًا إيّاه بإعتاقه منها في الوقت المناسب. عاد إلى أناستاسيوبوليس وتابع مَهامه. لكنّه، بإزاء تمادي النّاس في التّراخي، رفع استقالته إلى السيّد المتروبوليت. ولم يبلغ المأرب إلّا بعدما استعان بالبطريرك القسطنطينيّ كيرياكوس والإمبراطور موريق. أمضى بعض الوقت في المدينة المتملّكة. جرت، هناك، على يديه أشفية كثيرة. من بين مَن شُفوا ابن الأمبراطور. كذلك طرد الأرواح الخبيثة من العديدين.
عاد إلى ديره لينعم بالسّكون. كان طبيبًا للنفوس والأجساد وأعان الأكثرين. نِعَم الرَّبّ الإله كانت غزيرة عليه وعلى النّاس من خلاله. ذاع صيته في كلّ مكان. زار القسطنطينيّة عدّة مرّات. أخيرًا ظهرت له والدة الإله وأعطته خاتمًا ثمينًا. مذ ذاك أخذت قواه تتضاءل. مرض وبقي ثلاثة عشر يومًا خارج نفسه يُعايِن أسرار الدّهر الآتي. فما إن عاد إلى نفسه حتّى ترك خلوته ليشترك، بحميّة طالب الرّهبانيّة، في الحياة المشتركة. كان أوّل مَن يأتي إلى الكنيسة ويرتّل الخدمة بطولها حاثًّا رهبانه على عدم ترك الكنيسة أو إهمال الخدمة الإلهيّة حتّى لأسباب المرض. قال: “عندما ندخل بيت الرَّبّ نصعد إلى السّماء ونلقى الملك السّماوي مُحاطًا بكلّ حاشيته. إذ ذاك يُتاح لنا أن نحدّث الله بثقة ونطلب منه، مباشرة، كلّ ما نريد”.
ذات ليلة ظهر له القدّيس جاورجيوس، وإذ أعطاه عصا دعاه إلى مرافقته في رحلة طويلة. إثر ذلك اشترك في كل خِدم الأسبوع العظيم والفصح بفرح كبير. وما إن حلّ الأحد الجديد، الّذي صادف في تلك السّنة (613 م) عيد القدّيس جاورجيوس، حتّى ودّع تلاميذه مؤكّدًا لهم شفاعته لدى الله إذا ما اعتنوا هم بأمر خلاصهم ورقد. ألبسوه حلّته الأسقفيّة فوق الحديد الّذي كان على بدنه ولم يكن بإمكانهم نزعه. وبعدما أقاموا سهرانة عيد القدّيس جاورجيوس الّتي اختلطت أناشيدها بالأنغام الجنائزيّة ووري ثيودوروس الثّرى.
يُذكر أنّ مترجمه هو خادمه وتلميذه ألوسيوس. يُعيَّد له، في الغرب، في هذا اليوم عينه.