في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*أبونا الجليل في القدّيسين كيرلّلس الأورشليميّ*الشّهيدان طروفيموس وأوكاربيون *الشّهداء العشرة الآلاف المجهولو الأسماء*القدّيس البارّ أنينوس الفراتيّ العجائبيّ*أبونا الجليل في القدّيسين نيقولاي فيليميروفيتش.
* * *
✤أبونا الجليل في القدّيسين كيرلّلس الأورشليميّ✤
لا نعرف بالتّحديد لا أين ولد ولا متى كانت ولادته. يُظن أنّه أبصر النّور في أورشليم في حدود العام 315 م. سيم كاهنًا بيد القدّيس مكاريوس، أسقف أورشليم، الّذي أوكَل إليه مهمّة إعداد الموعوظين للمعموديّة. كان ذلك، فيما يبدو، حوالي العام 348 م. وإثر وفاة مكاريوس نادى به الشّعب خلفًا له وسامه أكاكيوس، أسقف قيصريّة الّتي كانت أورشليم إحدى توابعها (351 م). أكاكيوس هذا كان آريوسيًّا. لهذا السّبب التبس الأمر ما عساها تكون الأسباب الّتي حدت بأكاكيوس إلى القبول بكيرللس. ثمّة من يظنّ “أنّه لم يحصل على كرسيّه إلّا بعدما وعد بالإنضمام إلى الآريوسيّين”. هذا ما يقول به كلّ من المؤرّخين الكنسيّين سقراط وسوزومينوس مشيرين إلى “أنّ ظروف رقيّه إلى السّدّة الأسقفيّة يكتنفها بعض الغموض”. آخرون قالوا أنّ كيرلّلس كان رجل سلام، وديعًا متواضعًا، منشغلًا عن الجدل العقائديّ ببنيان المؤمنين. لهذا السّبب اجتنب استعمال اللّفظة الجدليّة في ذلك الزّمان “هوموأوسيوس” الّتي تشير إلى كون الابن مساويًا للآب في الجوهر. هذا التّحفظ المقصود لأسباب رعائيّة حمل الآريوسيّين على الظّن أنّه في صفّهم فلم يقفوا في وجهه حين نودي به أسقفًا لأورشليم. أنّى يكن الأمر فإنّ ثيودوريتوس في تاريخه الكنسيّ يذكر الرّسالة الّتي بعث بها مجمع القسطنطينيّة الأوّل (381 م) إلى البابا داماس وأساقفة الغرب والّتي جاء فيها:”نحن نُقرّ ونعترف منذ زمن بعيد أنّ كيرلّلس الحبر الجليل الموقّر هو الّذي انتُخب قديمًا وفق قوانين الكنيسة أسقفًا على الكنيسة أم كلّ الكنائس، كنيسة أورشليم، من بين أساقفة أقليمه، وأنّه هو الّذي جاهد الجهاد الحسن ضدّ الآريوسيّين في أوقات وأماكن مختلفة”.
أرثوذكسيّة كيرلّلس، في كلّ حال، ما لبثت أن بانت للملأ واضحة جليّة. هذا دفع أكاكيوس إلى اضطهاده والتّضييق عليه والسّعي إلى نفيه. روّج أكاكيوس في شأنه قصّة مفادها أنّ امرأة في أورشليم كانت ترقص في الشّوارع وعليها أردية كنسيّة. فلمّا سؤلت من أين أتت بها أجابت أنّها اشترتها من أحد التّجار وأدلت باسمه. فلمّا توجّه المستجوبون إلى التّاجر وسألوه من أين جاء بالأردية ادّعى أنّ الأسقف سلّمه إيّاها برسم البيع. لا نعرف ما إذا كان لهذه الرّواية أي أساس من الصّحة لكن المؤكد أنّ مجاعة عنيفة حلّت بأورشليم فلجأ الفقراء إلى كيرلّلس يسألونه العون فأدّى ما كان في طاقة يده. فلمّا نفد ما كان عنده ولم تنحلّ المجاعة أخذ يبيع أواني كنسيّة ويشتري بثمنها قمحًا لإطعام الجياع. ويبدو أنّ أكاكيوس استغلّ الحادثة المزعومة ونقلها إلى الإمبراطور. وقد نجح في إيهامه بأنّ كيرلّلس فرّط بأردية سبق للقدّيس الأمبراطور قسطنطين الكبير أن قدّمها لمكاريوس الأورشليميّ وأنّ الهدّية الملكيّة انتهت إلى امرأة ظهرت في أماكن للتّسلية وهي ترقص متّشحة بها. ردّ فعل الأمبراطور ضدّ كيرللس كان السّخط الشّديد حتّى إنّه أمر بسجنه.
هذا ويظهر أنّ الآريوسيّين نجحوا ثلاثًا في إبعاد كيرلّلس عن كرسيّه بدءًا من العام 357 م. آخر إبعاد له كان في زمن الأمبراطور فالنس، المناصر للآريوسيّة، وقد طال أحد عشر عامًا، من سنة 367 إلى سنة 378 م، بُعيد وفاة فالنس. فلمّا استلم ثيودوسيوس الكبير دفّة الحكم نعِم كيرلّلس بالسّلام والاستقرار في شغل أسقفيّته ورعاية شعبه. وأغلب الظّنّ أنّه رقد بسلام في الرّبّ في 18 آذار من السّنة 386 م. كلا الكنيستين في الشّرق والغرب حفظ ذكراه في هذا اليوم عينه، 18 آذار.
أهمّ ما وصلنا من مؤلّفات كيرلّلس عظاته الّتي ألقاها على طالبي المعموديّة وعلى المعمّدين الجُدُد أوّل حياته الرّعائيّة سنة 348 م. هذه أُلقيت في كنيسة القيامة في القدس وهي من أثمن ما وصلنا من تلك الحقبة من تاريخ الكنيسة. نصّها موفور في اللّغة العربيّة ضمن سلسلة “أقدم النّصوص المسيحيّة”. وهناك أيضًا رسالة وجّهها إلى الإمبراطور قسطنديوس وضمّنها سردًا لظهور نورانيّ للصّليب الأقدس جرت معاينته من الكثيرين في 7 أيّار 351 م. دونك بعض ما ورد فيها:
“في هذه الأيّام بالذّات لعيد العنصرة المجيدة، في التّاسع من أيّار، حوالي السّاعة الثّالثة13، ظهر في كبد السّماء صليب ضخم من نور فوق الجلجلة المقدّسة وامتدّ حتّى إلى جبل الزّيتون. لا واحد ولا اثنان رأياه بل كلّ سكان المدينة لأنّه استبان جليًّا. كذلك لم يختفِ بسرعة كما يمكن أن يخطر بالبال، بل كان مرئيًّا فوق الأرض عدّة ساعات وتلألأ نوره أبهى ضياء من أشعة الشّمس. ولو لم يكن الأمر كذلك لكان نور الشّمس قويّ عليه وحجبه. وقد اندفع السّكان بأجمعهم إلى ناحية الكنيسة الشّهيديّة هناك والخوف قابض عليهم مختلطًا بالفرح للرّؤية السّماويّة. الكلّ تدفّقوا إلى المكان، صغارًا وكبارًا، رجالًا ونساء من كلّ الأعمار، لا مسيحيّين فقط بل وثنيّين أيضًا وغرباء عن أورشليم. كلّهم كما بفم واحد رفعوا نشيد التّقريظ للرَّبّ يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، صانع العجائب…”.