في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
الشّهيدان أرميلس وأستراتونيكس *القدّيس البارّ يعقوب النّصيبيني *الشّهيد أثناسيوس *الشّهيدان باخوميوس وبابيرين *القدّيس البارّ مكسيموس الحرّاق *الشّهيد في الكهنة بطرس كابيتولياس *القدّيس البارّ إيرينرخس روستوف *القدّيس هيلاريون، أسقف بواتييه *القدّيستان الشّهيدتان إفستاثيا وتتيانا.
* * *
✤ القديس البار مكسيموس الحرّاق (+1365م)✤
وُلد في لامبساكا من أعمال البنطس. نشأ على التقى. ربطته بوالدة الإله علاقة مميّزة. كان يزور الرهبان في تلك الناحية بتواتر. لبس الثوب الرهباني وهو في السابعة عشرة. تتلمذ لراهب في قمّة غانوس في تراقيا. فلما مات الشيخ، معلّمه، انضمّ إلى آخر ثمّ خرج إلى القسطنطينية. أُعجب به أثناسيوس البطريرك هناك أشدّ الإعجاب، الأمر الذي دفعه إلى التباله إخفاء لفضائله عن عيون الناس. كان يبقى النهار بطوله بجوار كنيسة سيّدة بلاشيرن في المدينة، عرضة للسخرية والتهكّم، وكان يمضي الليل في الصلاة والبكاء لوالدة الإله. من القسطنطينية ارتحل إلى جبل آثوس حيث انضمّ إلى دير اللافرا الكبير. طاعته كانت كاملة وكذلك سعيه إلى محاكاة فضائل الكبار الذين سبقت لهم الإقامة في هذا المكان. لم تكن له قلاّية ولا تعزية. كان يرتّل في الكنيسة، لا يحوّل ذهنه عن الصلاة الداخليّة ولا يكفّ عن البكاء. دعته والدة الإله، ذات يوم، إلى الصعود إلى قمّة آثوس ليأخذ، نظير موسى، ألواح الشريعة الروحيّة. أقام في الصلاة هناك وحيداً ثلاثة أيّام بلياليها، يقاوم هجمات العدو المتواصلة. أخيراً ظهرت له والدة الإله محاطة بالجند السماويّين، متلألئة بالمجد الإلهي، فعزّته ثمّ أطعمته خبزاً سماويّاً، كما أعطته سلطاناً على الأبالسة وأمرته أن يعيش، من الآن فصاعداً، كناسك على منحدرات جبل آثوس ليكون له أن يعين الكثيرين على الخلاص. ولما انصرفت عنه نَعِم لثلاثة أيّام، وكأنّه في الفردوس، بالنور والطيب الذي خلّفته والدة الإله وراءها. نزل ممتلئاً فرحاً ونقل مشاهدته لأحد الشيوخ. وإذ كان الشيخ ناقص الفهم قال للقدّيس إنّ ما جرى له كان وهماً. لم يهتمّ مكسيموس بتبرير نفسه. اعتبر كلام الشيخ علامة من الله قرّر على أثرها السلوك من جديد، في التباله. مذ ذاك حرم نفسه حتى من ضرورات العيش وأخذ يجول في الأرض حافي القدمين، عرضة للشمس المحرقة وقسوة الشتاء. عاش في البرّيّة كملاك. كان يبني أكواخاً بدائية من أغصان الشجر ثمّ يشعل النار فيها فجرى عليه لقب “حرّاق الأكواخ” وباليونانيّة “كفسوكاليفا”.
رغم سلوك مكسيموس في التباله نهج نهج الآباء الهدوئيّين اللامعين. سمع به القدّيس غريغوريوس السينائي، المعلّم الكبير لصلاة القلب ومجدّد الحياة الهدوئيّة، فخرج يبحث عنه. فلما وجده جعله، حبّاً بالمسيح، ومن أجل المنفعة، يطلعه على سيرته. ورغم تحفّظات مكسيموس أفضى إليه بعجائب الله فيه منذ الفتوّة. سأله القدّيس غريغوريوس: “أتحفظ الصلاة الروحيّة بصورة مستمرة؟” فروى له مكسيموس أنّه لما كان شاباً صغيراً، فيما كان يصلّي، مرّة، أمام أيقونة والدة الإله طالباً منها نعمة الصلاة انحنى لها، فملأت حرارة لطيفة كالندى صدره وقلبه فجأة وأحدثت فيه شعوراً غامراً بنخس القلب. مذ ذاك استقرّ عقله في قلبه على نحو ثابت راسخ فأخذ يدعو بلا توقّف باسم يسوع ووالدة الإله بحلاوة فائقة.
سأله القدّيس غريغوريوس من جديد: “أيحدث لك أن تدخل في الذهول؟” فأجاب: “لهذا السبب خرجت إلى البرّيّة واشتهيت العزلة لألقى بوفرة ثمار الصلاة، وأعني بها المحبّة النقيّة لله والانخطاف نحوه”. فقاطعه غريغوريوس: “ماذا يحدث للذهن إذ ذاك؟ أيستمر في التلفظ بالصلاة في القلب؟” فأجابه: “كلا البتّة! لأنّه عندما يفتقد الروح القدس الإنسان وهو في الصلاة تتوقّف صلاته لأنّ الذهن إذ يكون مأخوذاً بروح الله يكفّ عن التحرّك وفق نشاطاته الخاصة ويستسلم لقياد الروح القدس، في السماء غير الماديّة للنور الإلهي أو في تأمّلات أخرى، أو حتى في حديث لا يُعبَّر عنه إلى الله. وكما أنّ الشمع، القاسي بطبيعته، يذوب ويشتعل ويصبح كلّه ناراً وكلّه نوراً عندما تمسّه النار، ومع ذلك يبقى متميّزاً عن النار، كذلك الذهن (نوس)، طالما بقي ضمن طبيعته الخاصة لا يعاين سوى ما يتصل بهذه الطبيعة ويبقى تحت سلطانها، ولكن متى دنت منه النار الإلهيّة والروح القدس، فإنّه يؤخذ بسلطان الروح ويشتعل بنار الألوهة. إذ ذاك ينحلّ كلّ فكر وكلّ فهم، ويصير الذهن كلّه، وقد اتّخذه النور الإلهي، نوراً إلهياً مشعّاً”.
سأله القدّيس غريغوريوس: “ما هي إذاً علامات الوهم وما علامات النعمة؟” فأجاب: “علامات الوهم الآتي من الشيطان هي الاضطراب في الروح وقسوة القلب والخوف وتشوّش الأفكار والخيالات والرؤى المفزعة للنور والنار المنظورَين والغرور والغضب. ولكن، عندما يدنو الروح القدس من روحنا يجمعها ويوحّدها ويعطيها الحكمة والتواضع والاتزان. يوحي إليها بفكر الموت والدينونة ويدفعها إلى ذرف الدموع وينعم عليها بنخس القلب من جرى التفكّر برأفات الله. كما يرفع الذهن في مراقي التأملات العلويّة ويضيئه ويغمره بالنور الإلهي ويعطيه سلام القلب وينعم على كل قوى الذهن بفرح وغبطة لا يوصفان، على نحو ما يعلّمه الرسول أنّ “ثمر الروح هو محبّة وفرح وسلام وطول أناة ولطف وصلاح وإيمان ووداعة وتعفّف” (غلاطية 5: 22).
ذهل القدّيس غريغوريوس لأقوال مكسيموس ولم يعد بإمكانه أن ينظر إليه كإنسان بل كملاك أرضي. رجاه أن يكفّ عن حياة التشرّد والتباله ليستقرّ في موضع ثابت ليضيء العالم بنور خبرته. أطاع مكسيموس وأقام في كوخ من أغصان الشجر، لا يملك من حطام الدنيا شيئاً، حتى ما هو ضروري للعيش. ألقى بثقله كاملاً على عناية الله، فكان يأتيه، بشكل منتظم، خبز حار من فوق يغذّيه، وكان يشرب من ماء البحر يحلّيه بالصلاة.
عاين الرهبان مكسيموس مرّات كثيرة وهو يرتفع في الهواء أثناء الصلاة أو محاطاً بنور بلغ من البهاء حدّاً كانوا يظنّون معه أنّ قلاّيته تحترق. أما صلاته المستمرة فكانت تتدفّق من قلبه كالنار، تدفع هجمات الأبالسة وتنجّي جمّاً من الممسوسين كانوا يأتونه بهم. مَنّ عليه الله بموهبة النبوّة، فكان بها يصلح الخطأة ويكشف لهم مكنونات قلوبهم، كما كان يفضح الهراطقة الذين كانوا يأتونه عن خداع، ويتنبّأ بالأحداث قبل حصولها. وكانت فوق كوخ قدّيس الله مغارة أمضى فيها أربعة عشر عاماً. من هناك ذهب فاستقرّ، على مقربة من دير اللافرا، في قلاّية صغيرة تركها لتلميذه ومترجمه نيفون القدّيس (14 حزيران) .
أخيراً استودع القدّيس مكسيموس روحه في يدي الله الحيّ حوالي العام 1365 م. كان قد بلغ من العمر خمسة وتسعين عاماً. كلّ رهبان جبل آثوس بكوه لأنّه كان لهم بمثابة أب ومعلّم وأكرموه للحال قدّيساً.