في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
* أبونا الجليل في القدّيسين سمعان الفارسيّ ورفقته * الشّهيد في الكهنة أنيقيطس الحمصيّ، أسقف رومية * أبونا الجليل في القدّيسين أغابيتوس، أسقف رومية * الشّهيد أدريانوس * أبونا الجليل في القدّيسين أكاكيوس ميليتين * الشّهداء الأبرار دونان الإيرلنديّ ورفقته * الشّهداء الأسبان الياس وبولس وإيزيدوروس * الشّهيدان فورتوناتوس ومرقيانوس * القدّيس إينوكنديوس تورتونا المعترف * الشّهداء ماباليكوس ورفقته الثّمانية عشر القرطاجيّون * الشّهيدان بطرس وهرموجانيس الأنطاكيّان * القدّيسة البارّة بوتنسياني الأسبانيّة * القدّيس البارّ بائيسيوس الكييفيّ المتباله * القدّيس البارّ زوسيما سولوفتسك * أبونا الجليل في القدّيسين مكاريوس، أسقف كورنثوس.
* * *
✤تذكار أبينا الجليل في القدّيسين سمعان الفارسيّ ورفقته✤
ورد ذكره في تيبيكونX الكنيسة العظمى اليوم وهو من القدّيسين السّريان البارزين. كتب سيرته المُستفيضة القدّيس ماروثا المُعَيَّد له عندنا في 16 شباط، وهو الّذي جمع رفات القدّيسين المُستشهدين في زمن الملك الفارسيّ شابور الثّاني (341– 379)، في مقرّ أسقفيّته، ميافرقين، فدُعيت، مذ ذاك، مدينة الشّهداء أو مرتيروبوليس.
يُعرف القدّيس سمعان، عند السّريان، بتسمية مار شمعون برصبّاعي، أي ابن الصبَّاغين، لأنّ آباءه، على حدّ تعبير كاتب السّيرة، “كان من حرفتهم أن يصبغوا بدم ليس من دمهم ثيابًا حريريّة كسوة لمملكة عدوّة الحقّ، فيما صبغ قدّيسنا المعظّم بدمه عينه ثوب نفسه الّذي تزيّن به في ملكوت السّماء”. كان جاثليقًا، أي رئيس أساقفة، على سليق وقطسفون. والّذين قضوا معه كانوا مائة وثلاثة، بينهم مار كدياب ومار سابينا، أسقفَي بلافاط، ومار يوحنّا، أسقف هرمز أرداشير ومار بوليداع، أسقف فرات ميشان، ومار يوحنّا، أسقف كرخ ميشان، وسبعة وتسعين كاهنًا وشمّاسًا، وماركوشتازد رئيس الخصيان.
مَفادُ استشهاد القدّيس سمعان ورفاقه أنّه بعد وفاة الأمبراطور قسطنطين الكبير الّذي نَعِم المسيحيّون في فارس في زمانه بالهدوء، قام شابور الثّاني على النّصارى واضطهد كهنتهم ورهبانهم وهدم الكنائس والأديرة. ولم يدفع الرَّبّ الإله عن شعبه، يومذاك، البلوى سريعًا لسبب مبارك حدّده كاتب السّيرة بعدم تمكين الشّيطان وخدّامه من القول “إنّما الأمن جعل شعب الله أن يتكاثر والرّفاهية صيّرت كنيسة المسيح أن تنمو والسّلاطين ساعدوها ورفعوا شأنها… وليس من يضطهد ولا من يُضيِّق ولا من يطغى… الله، سبحانه، أذن للأشرار أن يقاوموا السّاجدين له ويضطهدوهم ليُظهر للعالم عنايته الإلهيّة المُمتلِئة نعمة وحكمة وقوّته غير المغلوبة بوساطة ضعف ونحافة أجساد خدّامه… وهكذا ما يُصيب المؤمنين من الاضطهاد يَظهر الحقّ المبيّن وتُعلَن معرفة الله. بموتهم تبيّن حياته وبصبرهم تُشهَر قوّته…”
فقد أنفذ شابور أمرًا بإلزام شمعون، رئيس أساقفة النّصارى، أن يوقِّع صكًّا يأخذ فيه على نفسه أن يجمع ويستلم الجزية من جميع النّصارى مضاعفة. جواب القدّيس اتّسم بتواضعٍ عظيمٍ وشجاعةٍ كبيرة: “إنّي أسجد لملك الملوك وأوقّر أمره إلّا أنّ ما يُطالبني به ليس من شأني. فإنّ السّلطان المُعطى لنا على النّصارى ليس في ما يُرى بل في ما لا يُرى، أي في التّعليم والوعظ بكلام الله والصّلوات الطّاهرة والضّراعة الحارّة”. ثم أردف: أيّ سبب يحدوكم إلى أن تثقّلوا علينا الجزية؟ ألعلّنا أغنياء؟ يعلم الجميع أنّنا فقراء لا يفضّل المال عنّا. ألعلّنا أعداء الدّولة؟ لا بدّ أن يكون بينكم مَن يعلم أنّنا نحبّ جميع النّاس، خصوصًا ملك الملوك.
وبعدما أكّد عمّال شابور ضرورة التزام شمعون بما يأمر به شابور، رغم ما تفوّه به رجل الله، لم يجد شمعون سوى أن يقرّ بأنّ أمر ملك الملوك يفوق طاقة المسيحيّين فنحن لا نقدر، على حدّ تعبيره، “أن نأخذ على أنفسنا إعطاء الجزية مضاعفة لأنّنا فقراء لا نملك شيئًا. إلّا أنّ مساكننا وأملاكنا قدّامكم فخذوها. فقط لا تجعلونا حكّامًا قُساة طُغاة على إخوتنا الّذين هم خاصّة الله… ليس من شأن ملك السّماء أن يأمرنا نحن المُتّضعين أن نكون قساة ظالمين… أمّا إذا أراد الملك إبعادي عن محبّة إلهي فأشار عليّ بأن أوافقه دون إرادة سيِّدي فبغضُه أعزّ عليّ من محبّته ومقاومته أحبّ إليّ من طاعته والموت أود لي من الحياة الفانية”.
فلمّا بلغ جواب القدّيس شابورَ الملك غضب غضبًا شديدًا واتّهمه بالخيانة، أنّه يشاء أن يجعل تلاميذه وملّته خدّامًا لقيصر عدوّه. وقد سعى المجوس إلى إغارة صدر الملك على شمعون بالأكثر فبعث إليه برسالة قال له فيها: “… بكبريائك وصلفك تحمل ملّتك على خلع طاعتي. وأنا أيضًا سأبذل جهدي لأمحوكم من وجه الأرض”. لم يرتعد رجل الله بل أجاب: “… إني لقابل الموت من أجل الشّعب… عدم معاينتي نور هذا العالم خير لي من مشاهدة شعب ربّي في الضّيقات والرّزايا…”.
بعد ذلك أخذ المجوس يهدمون الكنائس ويلاحقون المسيحيّين. وقد جمع شمعون الرّهبان والكهنة والشّمامسة وقال لهم: “تقوّوا، لا ترتخوا… فإنّكم لهذا دُعيتم… أن تكونوا تلاميذ المسيح. فانظروا ما كابده من الإهانات من أجلكم… مَن ذا يقدر أن يفي المعلّم حقّه علينا في موته من أجلنا… فلنمت نحن أيضًا من أجله… ليس الله بضعيف ولا مسيحه بقاصر بل يريد إظهار قوّته في الضّعفاء والدّلالة على حياته في موتهم. وإذا ما رفعنا إليه عقولنا نظر إلينا وشجّعنا ونصرنا في الجهاد… لا تحزنوا لاستئصال بيعتنا على الأرض فإنّ لنا بنيانًا في السّماء غير مصنوع بأيدي البشر… لا أدري ماذا سيحدث عقب ذلك… ولكن كونوا حذرين متدرّعين دروع الإيمان… احفظوا أوامر الرَّبّ يحفظكم. أحبّوا الّذي أحبّنا وقرّب نفسه ضحيّة عنا حتّى يُحيينا بموته… هذا ما أوصيكم به لأنّي عالم أنّكم لن تروا وجهي بعد اليوم فإنّي مُزمع أن أُذْبَح من أجل الشّعب المسيحيّ والإيمان الحقيقيّ…”. ثم صلّى ورفع يديه وباركهم.
إثر ذلك سافر القدّيس وبعض الكهنة إلى الأهواز حيث سلّموا أنفسهم فكُبِّلوا واستيقوا إلى ليدان وهي مدينة بناها شابور حديثًا. فلمّا بلغ قصر الملك جاءه رجل مسنّ، رئيس للخصيان، كان مسيحيًّا فارتدّ. اسمه كان كوشتازد. هذا أراد أن يقابل رئيس الأساقفة فصدّه، فبعث إليه يقول له: “اغفر لي خطيئتي فلن أرجع إليها البتّة”. فكان جواب رجل الله: “إن ما ارتكبته ليس بخطأ حتّى أغفره لك ولا بنقيصة حتّى أتجاوز عنها بل هو جرم جسيم وكفر عظيم… وقد كفرت بإلهك، فمَن يغفر لك؟!… لعمري إنّ قصاصك لعظيم… ولا سبيل لك للخروج من هذه الوهدة إلّا بالدّخول من الباب الّذي خرجت منه… درّتك لا تُرَدّ إلّا بِسَفْكِ دمك من أجلها…”.
ذهب كوشتازد إلى داره وتدثّر بالمسح والرّماد راثيًا نفسه ومُضنيًا جسمه بالسّهر المُتوالي والبُكاء الدّائم والصّوم الطّويل.
أمّا شمعون فمثل أمام شابور. وإذ احتجّ على مُضاعفة الجزية لأنّ شعبه فقير، علم أنّ ما حمل الملك على التّضييق عليه هو أنّه وشعبه من غير مذهب ملك الملوك. فأبدى القدّيس أنّهم مُستعدّون لأن يبذلوا كلّ ما لهم ونفوسهم من أجل إيمانهم. أمّا بشأن الجزية فأكّد أنّه ليس مُستعدًّا أن يُضايق شعبه ولو أمر الملك بسلخ جلده. لا اغتضبنّ الفقير رداءه ولا أضايقنّ مَن حرّره إلهي بدمه الكريم!
بعد ذلك ورد في السّيرة حوار لاهوتيّ بين الملك والقدّيس. أراد الملك أن يحمل شمعون على عبادة الشّمس والنّار فامتنع لأنّ الشّمس والقمر، كما قال، سوف يزول سيرهما ودَوَرانهما والنّار تموت كلّ يوم إذ تُطفأ وتزول. فسأله شابور عن يسوع فأجابه أنّ يسوع إله وإنسان معًا، وأنّه صار إنسانًا لأنّ الله أراد أن يردّ النّاس عن الضّلالة. وحيث أنّهم لم يروا الله فإنّه أخذ الطّبيعة البشريّة وعلّم النّاس الفضائل ومارسها هو نفسه وأبرأهم من أوجاعهم وردّهم عن عبادة الأوثان. وقد قبض عليه اليهود وصلبوه. وهو أسلم ذاته للموت طوعًا لكي يحيا أيضًا فيأتي بدليل قاطع على قيامة جميع النّاس. فقام وصعد إلى السّماء، وهو عتيد أن يأتي ليُقيم الموتى.
وسعى الملك والمجوس إلى حمل القدّيس على الإذعان لملك الملوك واقتبال آلهته فلم يُجْدِهم الإقناع ولا التّهديد فأمر الملك بإلقائه في السّجن.
وفيما خرج به الجند التقاه كوشتازد، رئيس الخصيان، الّذي دنا منه وسجد له فزجره القدّيس قائلًا: “لا يليق أن أسالم مَن كفر بملكه الحقيقيّ خوفًا من شابور الملك”. أُصيب كوشتازد بصدمة لا فقط لأنّ شمعون صدّه وزجره بل بالأحرى لأنّه أيقن أنّ المِسْحَ والرّماد والسّهر والبكاء والصّوم، كلّها لا تنفع طالما لم يعترف بيسوع أمام شابور بعدما أنكره. فعاد إلى بيته وغيّر حلّته ولبس الأسود وجاء إلى الملك واعترف أنّه قاتل. فسأله الملك: ومَن قتلت؟ فأجاب: قتلت نفسي بسجودي للشّمس كذبًا. وعلى هذا النّحو خدعتك أنت وإلهي وخِنتك لأنّي سجدت للشّمس ظاهرًا. فأمر الملك بقطع رأسه وأوفد منادٍ ينادي أنّ كوشتازد لم يُعرَض للسّيف إلاّ لنصرانيّته. قصد الملك كان أن يوهن عزيمة المسيحيّين، لكنّ فعله جعل المتراخين بينهم يتشدّدون. كيف لا وقد عاد أحدهم إلى الإعتراف بالمسيح بعدما كان قد ارتدّ عنه؟!
لمّا بلغ شمعون خبر كوشتازد فرح وارتاح قلبه إلى مصير شعبه. قال: “كنت أريد أن أسبقه فسبقني ونقض أسوار الموت المهولة المنيعة ففرّحني واهتدى إلى سبيل الخلاص فأفعمني سرورًا… فَعَلامَ أبقى بعد في هذه الحياة فإنّه هوذا يستدعيني… طوبى للسّاعة الّتي فيها يأتون ويأخذونني إلى القتل”. ثم خرّ ساجدًا وأخذ يصرخ: “هب لي اللّهمّ إكليل الاستشهاد لأنّك تعلم أنّي طلبته من كلّ قلبي… أهّلني يا ربّ لأن أكون إمامًا لجميع المؤمنين الّذين في الشّرق بسفك دمي أمامهم”. فأجاب الأساقفة والكهنة والشّمامسة المسجونون معه: “آمين”. وبعدما شدّدهم وقال لهم أنّهم غدًا، في اليوم الّذي فيه تألّم الرّبّ ومات عنّا، يُقتلون، أقاموا القدّاس الإلهيّ على أيديهم. وقد قضوا اللّيل كلّه في تلاوة المزامير والتّسابيح.
ثمّ في الجمعة العظيمة جرى قطع رؤوسهم جميعًا.