في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
* القدّيس البارّ مرتنيانوس الفلسطينيّ* الرّسولان الشّهيدان أكيلا وبريسكلا * أبونا الجليل في القدّيسين أفلوجيوس الأنطاكيّ، أسقف الإسكندريّة * الشّهيدان المجهولا الإسم، الأب وابنه * القدّيس البارّ استفانوس نامنجا.
* * *
✤القدّيس البارّ مرتنيانوس الفلسطينيّ✤
لا نعرف تمامًا متى عاش القدّيس مرتنيانوس ولا أين ولو غلب القرن الرّابع تاريخيًّا وقيصريّة فلسطين مكانًا. بعض التّواريخ يمتدّ حتّى إلى القرن التّاسع الميلاديّ، وبعض الأمكنة إلى بلاد الكبّادوك. أنّى يكن الأمر فإنّ كتبة سيرة القدّيس المُميّز يتّفقون في الخطوط العريضة لسيرته.
اقتبل مرتنيانوس الحياة النّسكيّة في سنّ الثّامنة عشرة في مكان يقال له “محّلة القوس” انتشر فيه النّسّاك. وعلى مدى خمس وعشرين سنة سلك في الفضيلة بهمّة وجدّ كبيرين حتّى قيل أنّ الرَّبّ مَنَّ عليه بموهبة صنع العجائب. بعد ذلك سمح الرَّبّ لعبده بتجربة مُرّة. التّجربة كانت تجربة الجسد. هل كانت من باب حسد الشّياطين، على غرار ما فعله إبليس بأيّوب الصّدّيق؟ ربّما! هل كان في قلب الرّجل هوى للمرأة مربوطًا برباط الجهاد لم يسمح الرَّبّ إلى ذلك الحين بتزكيته، ثم فجأة انكشف ليكون لعبد الله مرتنيانوس أن يتّضع بإزائه؟ هذا أيضًا ممكن.
دونك ما جرى لقدّيسنا العزيز.كانت في قيصريّة امرأة هوى مغتّرة بنفسها. فلمّا بلغها خبر مرتنيانوس أنّه طاهر نقيّ بار مجدّ تحرّك في نفسها شعور بالتّحدّي. مرتنيانوس كما ورد، كان وسيم الطّلعة ترغب به النّساء وكان يستقبل النّاس ويصلّي عليهم. فخطر ببال المرأة أن تغامر فاتّشحت بثياب رثّة وحملت تحت إبطها صرّة جعلت فيها ثوبًا وشالًا ناعمين وبعض الحليّ وخرجت إلى محلّة القدّيس. هناك أخذ المطر يتساقط. وبان كأنّ عدوّ الخير رتّب منظرًا يثير شفقة القدّيس فيستقبل المرأة ويقع في المحظور. كلّ ذلك بسماح من الله. قرعت المرأة الباب ففتح. وإذا به أمام مخلوق رثّ الثّياب والمطر يسحّ منها، في فاها الويل والتّرجّي أن يستقبلها لئلا تفترسها الوحوش والوقت أمسى. ماذا عساه يفعل؟ لم يخطر بباله أنّ هذا ربّما كان فخًّا إبليسيًّا، والنّسّاك، عادة، ذوو حذر شديد. ولعلّ الله حجب عنه البصيرة تدبيرًا ليضيء ظلمته فيما بعد.
قبل القدّيس المرأة لديه. أعدّ لها نارًا لتستدفئ وقدّم لها بعض ما عنده من المأكل، خبزًا أو تمرًا. ثم تركها إلى قلّاية داخليّة كانت له واستغرق في صلاته وتلاوة مزاميره. ماذا حدث بعد ذلك ليس واضحًا. قيل أنّ المرأة غيّرت حلّتها. لبست الغوى بعدما لبست المسكنة. وقيل اقتحمت قلّايته الجوّانيّة. كذلك قيل أنّه جاء إليها مفتقدًا فألفاها على مظهر أسر قلبه. أنّى يكن الأمر فإنّ مرتنيانوس اجتاحته التّجربة وتحرّكت لها أحشاؤه حتّى قبلها ومال إليها، لاسيّما للكلام المخدّر الّذي سمعه منها عن عرس قانا الجليل وزواج بعض الأنبياء والقدّيسين وإنّه ليس في الحبّ ما يضير. الإطار المسرحيّ من وجهة بشريّة وشيطانيّة كان مبكّلًا. وبالنّتيجة أذعن القدّيس للأمر المعروض عليه. أمر واحد بقي أمامه أن يتأكّد من أن أحدًا ليس في الخارج، وليس تحت عين إنسان. وإذ خطر ذلك بباله قفز إلى خارج القلّاية ليتأكّد من خلو السّاحة لديه. في تلك اللّحظات القليلة اخترقت قلبه رأفة الله بهيئة صورة للهاوية الّتي هو مزمع أن يلقي بنفسه فيها فانصدم وارتدّ تائبًا. لمح مرارة المرّ مذاقًا فثاب إلى رشده. للحال جمع حطبًا وأشعل نارًا ووطئها حافي القدمين ولسان حاله: انظر قبل أن تباشر النّجاسة إن كنت قادرًا على احتمال نار جهنّم عقابًا! وإذ احترقت قدماه وعظم ألمه واشتدّ نخس قلبه حرقة فوق حرقة، أخذ يعول بدموع سخيّة فبلغ صوته أذني المرأة فخرجت تستطلع أمره فألفته في أسوأ حال. وقد ذكروا أنّ المرأة هربت لتوّها. وذكروا أيضًا أنّ رهبة المشهد زلزلتها فبان ما فعلته في منتهى العبث والوحشيّة. وإذ اضطربت أعماقها تابت إلى ربّها وأخذت تتوسّل للقدّيس أن يسامحها ويعينها إن كان لها خلاص. كذلك رووا أنّ القدّيس بعث بها إلى دير القدّيسة باولا في بيت لحم حيث سلكت في توبة صدوق اثنتي عشرة سنة إلى أن تكمّلت بالقداسة. وللمرأة في التّراث اسم هو زويي.
أمّا رجل الله فاحتاج إلى سبعة أشهر ليستردّ عافيته ثم غادر مكانه.
هام على وجهه في البرّيّة يبحث عن مكان لا وصول لأحد إليه. كان يظنّ أنّ البعاد كاف ليحول بينه وبين النّاس، لاسيّما النّساء، وليقيه شرّ تجارب إبليس. أخيرًا، دون أن يعرف كيف، بلغ شاطئ البحر. هناك التقى رجلًا تقيًّا، صاحب مركب، يعرف دواخل البحر جيّدًا. فسأله عن مكان مقطوع بالتّمام عن الأنس. فدلّه على صخرة كبيرة في عرض البحر، يتعذّر على أحد الوصول إليها. وإذ حرّك الرَّبّ الإله قلب الرّجل رضي أن يأخذ مرتنيانوس إليها وأن يأتيه كلّ بضعة أشهر ببعض الماء والطّعام والخوص لشغل السّلال.
قبع مرتنيانوس على تلك الصّخرة عشر سنوات لم يُقلق هدوءه خلالها أحد. ثم حلّت ساعة التّجربة من جديد.
سفينة انكسرت بقرب المكان وهلك من كانوا على متنها إلّا صبية فتّانة تمسّكت بخشبة بين حطام السّفينة بقرب صخرة القدّيس رأته الصّبية فاستغاثت ونادته. وإذ لاحظها خطر بباله أن تكون تلك تجربة أخرى شطّطها له إبليس بقرب مأواه ليوقع به. حدّق جيّدًا. كيف يترك الصّبيّة عرضة للهلاك! فأتى إليها وأعانها حتّى أخرجها إلى الصّخرة. وما أن استردّت أنفاسها قليلًا حتّى قال لها أنّه لا يستطيع أن يبقى في مكانه معها. عليه أن يذهب. أمّا هي فلتبق إلى أن يأتي صديقه، صاحب المركب، وهو يعينها إلى بلدها. وإذ أسلمها ما لديه من طعام وشراب استودعها الله وألقى بنفسه في المياه كبين يدي الله الحيّ، فإذا بدُلفين ينقله على ظهره إلى الشّاطئ.
أمّا الفتاة فلكي تؤدي الشّكر لله فإنها آثرت قضاء بقيّة أيام حياتها ناسكة على الصّخرة. وقد ورد أنّها استمرّت كذلك سنين إلى أن رقدت بالرَّبّ واسمها فوتين. وإنّ صاحب المركب وزوجته هما اللّذان أخذاها، بعدما رقدت، ووارياها الثّرى.
أمّا مرتنيانوس فشكر الله جزيلًا على حسن رعايته وقرّر، مذ ذاك، أن يسوح ولا يُقيم في مكان إلّا عبورًا. وقد ورد أنّه مرّ بما يزيد على المائة مدينة في غضون سنتين إلى أن وصل إلى أثينا حيث رقد.
هذا ويبدو أنّه كان لقدّيسنا إكرام جزيل في الشّرق، لاسيّما في القسطنطينيّة، في كنيسة بقرب آجيا صوفيا.