في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*البار المتوشّح بالله سابا المتقدّس *القدّيسان البارّان قاريون وزكريا المصريّان *القدّيسان الشّهيدان بوليكاربوس وثيودوروس الأنطاكيّان *القدّيس البار نونس *القدّيسة الشّهيدة كريسبينا.
* * *
✤البار المتوشّح بالله سابا المتقدّس✤
وُلِد القدِّيس سابا عام 439 في قيصريّة كبادوكية، ورقد عام 533 عن عمر 94 سنة. حياتُه المديدة الّتي صادفت عصرَ الرّهبنة الذّهبيّ امتلأت صلواتٍ وجهاداتٍ من أجل الكنيسة ومن أجل مُتَوَحَّده (تعريب كلمة لافرا اليونانيّة وكناية عن دير أشبه بقرية رَهبانيّة يعيش فيه المتوحِّدون). ولقد استخدم الله هذا الإنسان المُتقدّس ليحفظ سلامة استقامة الرّأي (الأرثوذكسيّة) في عصر متأزِّم.
عاش القدّيس منذ سني الطّفولة في دير التجأ إليه زاهدًا في الدّنيا وهو بعدُ في سنته الثّامنة، إذ عاين انغماسَ النّاس في الدّنيويّات لمّا تجادل خالُه وعمُّه على ميراثه إثرَ سفر أبويه قسرًا إلى الإسكندريّة عاهدين تربيتَه إلى عمّه. في الثّامنة عشرة، ذهب إلى الأرض المُقدّسة وفي نفسه رغبةٌ أن يصير من أتباع القدّيس أفثميُس. هذا رفضَه لصغر سنّه لكنّه عاد فقبله بعد 10 سنوات من الرّياضة النّسكيّة في دير الشّركة الّذي للقدّيس ثِئُكتيستُس. بساطة القدّيس سابا وقداسته أدهشتا البارَّ أفثيميُس فلقَّبه “بالفتى الشّيخ”. في السّنة 43 من عمره تنسّك لفترة طويلة في الصّحراء قرب القدّيس جِراسِمُس الأردنيّ. انسحب بعدها وعاش وحده لخمس سنوات في كهفٍ مَنيعٍ في رّيْدِ جبل قَدرون قبالةَ الدّير الحاليّ بالتّمام. لذا، فإنّ ناسكًا كهذا صارمًا وملتهبًا حبُّه لحياة الرَّهبانيّة في المسيح كان مبتغى شبّان كثيرين. في عمر 45 سنة كان قد أحاط به 70 من نسّاك البراري الذين يعيشون في المغاور المجاورة. ولمّا صاروا 150 شخصاً، اضطُرَّ القدّيس أن يبني مُتَوَحَّده شمالَ مجرى النهر في وادي قدرون. ذاعت شهرة القدّيس، فالتجأ إليه رهبان كثيرون شبّان، من جنسيّات مختلفة من بينهم أسقفُ قُلُنِيُّةَ يوحنّا الهدوئيّ. لما بلغ 63 من العمر، صارت حاشيته تضمّ 5000 راهب.
غير أنّه، وبينما كان عدد الرّهبان يزداد، بدأت الجدالاتُ الأُرِجِنّيّة تُعكِّرُ الجوَّ الهادئ، إذ عصى بعض الرّهبان رئيسَهم. أفسح القدّيس مجالًا للغضب مغادرًا ديرَه مُؤقَّتًا. إلّا أنّ الأوضاعَ ما تحسَّنت. فرجَع حاملًا رسائلَ تحذيرٍ من البطريرك إيليّا للرّهبان العاصيين. أولئك ازدادوا تعصّبًا فشاغبوا ثمّ ارتحلوا.
عام 508 استقرّوا في المُتَوَحَّد الجديد. وهناك أيضًا استمرَّت الجدالات وتفاقمت المشاكل، أمّا سلام الله المُفتَّرَض في حياة روحانيّة فقد فُقِد. والبار، بداعي محبّة كثيرة، ذهب إليهم وأسّس هيكلًا ومخبزًا وحدّد لهم رئيسًا. وبعد رَدحٍ من الزّمن أعادت صلواتُه غيرُ المنقطعة نعمةَ الله، فإنّ شرعيّة حضورِ القدّيس سابا تُضعِف المبتدعين.
لعقودٍ كثيرة في القرن الخامس، بلبلت الكنيسةَ بدعةُ الطّبيعة الواحدة الّتي تعترف بأنّ طبيعة الرَّبّ الإنسانيّة امتصتّها طبيعتُه الإلهيّة كلّيًّا. فالبِدعة إذًا، تُوهِنُ تأنّسَ الرَّبَّ وبالتّالي خلاصَنا. عام 451 دعت الإمبراطورة بُلخَريّة إلى المجمع المَسكونيّ الرّابع في خَلقِدونية، الّذي حرم المُبتدعين وأعلن “طبيعتَي الرَّبَّ الكاملتَين في شخص واحد بلا امتزاج ولا تغيّر ولا انقسام ولا انفصال”.
لم يهدأ المبتدعون، فأعلن الإمبراطور زينون عام 482، وبهدف إعادة السّلام، ما دُعي “مرسومَ الاتّحاد” الّذي قلّل مفعول المجمع المسكونيّ الرّابع. هذا المرسوم عمّم البلبلات فصار ضدَّ السّلام! أديار فِلَسطين دافعت عن المواقف المستقيمة الرّأي وحَمَت البطريرك سالوستيُس ورئيسي الأديار سابا وثِئُذوسيُس.
استمرّ الإمبراطور أنستاسيُس، الّذي خَلَفَ زينون، في السّياسة نفسها: فنَفَى رؤساءَ الكهنة المستقيمي الرّأي (الأرثوذكسيّين) وثَبَّت المُبتدعين وعقد لهم مجمعًا وأدان فِلافيانُسَ البطريركَ الإنطاكيَّ وإيليّا بطريركَ أورشليم دون سواهما. في هذه الأثناء أرسل بطريرك أورشليم وفدَ رؤساء الأديار، ومعهم القدّيس سابا إلى الإمبراطور. هذا قَبِلَ الوفدَ إلّا أنّ الحجّابَ منعوا القدّيس سابا من الدّخول إلى البَلاط إذ أنّ جُبَبَه قديمة ومرقّعة. طلب الإمبراطورُ النّاسكَ المشهور آمِرًا بأن يُدخَل. وحدَها هيئةُ القدّيس كانت كافية لتؤثّر به، فاقتنع للوقت بأنّ يُرجئ مضايقةَ البطريرك المستقيم الرّأي إيليّا وأن يُحرَّر هيكل القيامة شيئًا فشيئًا من الضّرائب الثّقيلة غير العادلة وأن يُعتِقَ منها سكّان أورشليم. غير أنّ موقفَ الإمبراطورِ المتساهلَ لن يستمرّ طويلًا، فقد أُجبِرَ بطريرك أورشليم أن يشترك مع اسفيرو بطريركِ أنطاكية الجديد وهو من أتباع بدعة الطّبيعة الواحدة. رفض فنُفِيَ ومات. وكان إلى جنبِه القدّيس سابا. اختير يوحنّا الثّالثُ، تلميذُ القدّيس خليفةَ البطريرك إيليّا إذ قد تعهّد بأن يَشجُبَ المجمعَ المسكونيّ الرّابع. فأسرع القدّيس سابا وثَناه، وكانت النّتيجة أن سُجِنَ يوحنّا الثّالث. أجبره الإمبراطور وهو في السّجن أن يشترك مع أسفيرو بطريركِ أنطاكية. فتَظاهَرَ، بالتّوافُقِ مع القدّيس سابا، بأنّه يتعهّد أن يشجب المجمعَ المسكونيّ الرّابع وأن يَعترفَ باسفيرو إنّما في اجتماع رسميّ فقط بمرأى من الكنائس وتُجاه كلّ السّلطات. حضر إلى الاجتماع آلافُ الرّهبان والمؤمنون، فحرم البطريركُ المبتدعين واعترف بالمجامع الأربعة وهو على عرشه في كنيسة القدّيس استفانُس. إذّاك صَفَّقَ المؤمنون لبطريركهم القويّ بينما انسحب ممثِّلُ الإمبراطور مستسلمًا. حَنِقَ الإمبراطور وقرَّر أن ينفي البطريرك يوحنّا الثّالث مع سابا وثِئُذوسيُس. فألَّف الآباءُ الثّلاثة رسالةً للإمبراطور عام 516 اعتبرها بعدَ صلواتٍ كثيرة فغيَّرت رأيه. عام 518، خَلَفَ أنستاسيُسَ الإمبراطورُ المستقيمُ الرّأي يُستينُسُ وتَبِعَه يُستِنيانُس عام 527، هذان ثَبَّتا استقامةَ الرّأي والسّلامَ في الكنيسة. من خلال ردّة الفعل هذه على جدالات بدعة الطّبيعة الواحدة، يمكن لأيِّ كان أن يَعِيَ قيمةَ حضور القدّيس سابا في القرن الخامس الكثير الاضطراب! لكنّ جهاداتِه لم تتوقَّف هنا، فقد ارتبط اسمُه بالثّورة السّامريّة، إذ تمرَّد السّامريّون وأعلنوا مَلِكًا آخَر، وأغاروا ليَنهَبوا زارعين الرّعبَ، وقتلوا أساقفةَ المسيحيّين، وأحرقوا ذخائرَ الشّهداء. أخيرًا قَمَعَ يُستِنيانُسُ الثّورةَ، لكنّه حَقَدَ كذلك على مسيحيّي فِلَسطين الّذين احتَفَظوا للسّامريّين بآثار قاسية. فلجأ البطريرك من جديد إلى الشّيخ القدّيس سابا الّذي أربى على 90 من السّنين. أرسلَه إلى القسطنطينيّة ليُسَكِّنَ غضبَ الإمبراطور. هذا كان يعرف حياة البارّ المعمّر وجهاداتِه فاستقبله بالتّكريمات: سجد له سجدةً وعانقه وقَبَّلَ رأسه. بدورها انحنَت له الإمبراطورةُ ثِئُذورة وطلبت بركته. لقد حَظِيَ النّاسكُ الأشيبُ بتقديرهم! بمرسوم إمبراطوريّ حدّ من التّطرّف السّامريّ وحرّر فِلَسطين من كلّ جباية كما حسّن ترميم الهياكل الجليلة في أماكن الحجّ المدمّرة، بالإضافة إلى تحصين ديره الكبير.
وليس كتاب الأصول (التّيبيكون) إلّا تقدمةُ أخرى من تَقَادِم القدّيس سابا لذلك يُعرَف باسمه، مثلما يُعرَف “بالأورشليميّ”. بالاشتراك مع القدّيس ثِئُذوسيُس رئيس أديار الشّركة، سنّ القوانين والتّقاليد الطّقسيّة الّتي نشأت في مصر وحافظت عليها أديار كثيرة في فِلَسطين. في أصوله، حدّد القدّيس سابا أيضًا ترتيب الخِدَم وتفاصيلها وتوزيعها على الأيّام المختلفة ولائحة بالأعياد والتّقويم الّذي تتّبعه. راجَعَ الكتابَ صفرونيُسُ بطريركُ أورشليم وتَلاه يوحنّا الدّمشقيّ. ثمّ، في القرن الثّاني عشر، أعاد النّظر فيه بطريركُ القسطنطينيّة نيقولَوس الكاتب وفي القرن الخامس عشر راجَعَه سمعانُ التِسلوّنيكيّ.
إشعاع القدّيس لم يقتصر فقط على ديره، فقد أسّس أديارًا غيره منها ثلاث متوحَّدات (المتوحَّد الجديد علم 508، متوحَّد الأفواه السّبعة عام 512، متوحَّد إرمياء عام 531) وستّة أديار شركة (دير القلعة عام 492، دير مبتدئي المتوحَّد الكبير عام 493، دير غاذارِيَة عام 503، دير نِقوبُلي عام 508، دير المغارة عام 509، دير يوحنّا الاسخُلاري عام 512). كذلك أسّس خمسة مآوي فقراءٍ وفنادق لاستضافة الغرباء والآباء العابرين.
الشّيخ الأزهر، بل القدّيس، رأى دُنُوَّ أجَلِه، فسجد للقبر الفائق القداسة وانكفَأ إلى هدوء مُتَوَحَّده الحبيب. هرع البطريركُ بطرس الّذي كان ابنه الرّوحيّ وبكثيرِ التّوسُلات أحضره إلى الدّار البطريركيّة وهناك خدمه بنفسه. لكنّ البار رجاه أن ينقلوه إلى ديره ليرتاح في توبته. بعد أن حدّد مِليتاسَ البيروتيّ خليفتَه وترك له ترتيبات مكتوبة لطقوس مُتَوَحَّده وباقي أدياره، تناول القدّيس الأسرار الطّاهرة ورقد في 5 كانون الأوّل عام533 عن عمر 94 سنة، وأُودِعَ اللّحدَ في مُتَوَحَّده.
فيما بعد، لأجل حماية جثمانه الّذي حُفِظَ كلّيًّا بلا انحلال، نقله رهبانُه إلى القسطنطينيّة. وفي القرن الثّالث عشر نقله الصّليبيّون إلى البندقيّة. وبين الثّالث عشر والسّادس والعشرين من شهر تشرين الأوّل عام 1965 أعادت الكنيسةُ الغربيّةُ جثمانَه إلى ديره. والقدّيس من ذلك الحين في بيته يتشفّع إلى الرَّبّ بكلّ الّذين يطلبون وَساطَته. دوّن الكثير من معجزاته في حياته وبعد الموت، يضيق المجال بإيرادها. وختامًا، نسأله، أن يشفع بنا إلى الرَّبّ ليُنعِم علينا بالجرأة لنحفظ استقامة الرّأي بلا لوم في أفعالنا والأقوال، فلا نرميّها لغير المستحقّين.