في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*عيد حبل القدّيسة حنّة بمريم، والدة الإله *عيد تجديد هيكل القيامة *تذكار القدّيسة حنّة النبيّة أم صموئيل النّبيّ*تذكار أبينا البار استفانوس سراج القسطنطينيّة الجديد *القدّيسون الشّهداء سوسيتاوس ونرسيس وإسحق.
* * *
✤حبل القدّيسة حنّة بمريم، والدة الإله✤
لا ذكر لجدّي الإله، يواكيم وحنّة، في كتب العهد الجديد. ولكن شاع ذكرهما في الكنيسة، في أورشليم، أقلّه منذ القرن الرّابع الميلاديّ. وعن أورشليم أخذت الكنيسة الجامعة ما يختصّ بهما.
الصّورة المتداولة في التّراث الكنسيّ عن يواكيم وحنّة أنّهما كانا زوجَين تقيّين مبارَكين سالكَين بِمَخافة الله. ولكن لم يكن لهما ولد لأنّ حنّة كانت عاقرًا. هذا النّقص في حياة يواكيم وحنّة كان لهما سبب حزن وضيق ليس فقط لأنّه من المفترض أن يتكمّل الزّواج بالإنجاب بل، كذلك، لأنّ العُقم، في تلك الأيّام، كان النّاس يعتبرونه عارًا، وفي نظر الكثيرين من اليهود لعنةً أو تخلّيًا من الله. لهذا كان هذان الزّوجان الفاضلان لا يكفّان عن الصّلاة بحرارة إلى الرَّبّ الإله ليفتح رحم حنّة ويمنّ عليهما بثمرة البطن. ولكن لم يشأ الرَّبّ الإله أن يلبّي رغبة قلبيهما حتّى جاوزت حنّة سنّ الإنجاب. لم يكن هذا إعراضًا من الله عنهما بل تدبيرًا لأنّ قصده، كما ظهر فيما بعد، كان أن يُعطيهما، ويُعطي البشريّة من خلالهما، أعظم عطيّة. ولكي لا يشكّ أحد في أنّ ما حدث هو من الله ترك حنّة تتجاوز سنّ الإنجاب.
استمرّ يواكيم وحنّة في الصّلاة إلى العليّ بحرارة حتّى بعد فوات الأوان على حنّة. وكان هذا تعبيرًا عن ثقتهما الكاملة بالله أنّه قادر على كلّ شيء. وفي العهد القديم أكثر من مَثل عن نساء مبارَكات أنعم الرَّبّ عليهنّ بثمرة البطن بعد أن كنّ عاقرات، كحنّة أمّ صموئيل النّبيّ، وبعضهن تجاوز سنّ الإنجاب كسارة. أمّا الرَّبّ الإله فارتضى مثل هذا التّدبير لأنّه شاء أن يكون المولود الآتي لا ثمر الطّبيعة البشريّة وحسب، بل ثمر النّعمة بالأولى.
فلمّا حان زمان افتقاد يواكيم وحنّة، أرسل الرَّبّ الإله ملاكه إلى حنّة وبشّرها بأنّ صلاتها وصلاة زوجها قد استجيبت وأنّ العليّ سوف ينعم عليهما بمولود يكون بَرَكة عظيمة لكلّ المسكونة. وآمن يواكيم وحنّة بكلام الملاك. وحبلت حنّة وأنجبت، في زمن الولادة، مولودًا أنثى، مريم المبارَكة، والدة الإله.
الحبل بمريم
ولئن كانت ولادة مريم بتدخّل من الله فإنّ الحبل بها كان بحسب ناموس الطّبيعة، أي إنّ الحبل بها جاء على أثر لقاء يواكيم وحنّة بالجسد، مثلهما مثل أيّ زوجَين عاديّين، وإنّ ما ورثته عن أبيها وأمّها، لجهة الطّبيعة البشريّة، هو ما يرثه كلّ مولود عن أبويه، أي، بصورة خاصّة، العبوديّة للموت والنّزعة إلى الخطيئة أي إلى صنع ما يخالف الله. هذا الميل إلى الخطيئة هو بالذّات ما عبّر عنه المُرنّم في المزمور الخمسين حين قال إنّه “بالخطيئة ولدتني أمّي”. هذه الحالة الّتي هي نصيبنا جميعًا لا ذنب لأحد منّا فيها، بل هي الحالة الّتي ورثناها عن آدم وحوّاء بعدما خطئا إلى الرَّبّ الإله وسقطا من الحالة الّتي كانا يتمتّعان بها في الفردوس. وهذا ما عبّر عنه الرّسول بولس حين قال إنّه “بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة دخل الموت” (رومية 5: 12). مريم، والدة الإله، إذًا، هي واحدة منّا ولا تختلف عنّا في ما ورثناه عن آدم وحوّاء، لذلك عندما سرّ الرّبّ الإله وارتضى أن يسكن فيها ويولد منها، سرّ وارتضى أن يسكن، من خلال مريم، فينا جميعًا لأنّ مريم واحدة منّا في الطّبيعة البشريّة وفي الحالة الّتي صارت إليها الطّبيعة البشريّة. مريم، بهذا المعنى، هي باكورة الخليقة الجديدة، حوّاء الجديدة، أمّنا جميعًا، كما كانت حوّاء الأولى باكورة الخليقة العتيقة. ومريم أيضًا رمز الخليقة الجديدة.
نقول هذا لأنّنا نريد أن ننبّه إلى أنّ الرَّبّ يسوع المسيح وحده، دون سائر البشر– بمن فيهم مريم- كان حرًّا من الموت ومن دون أيّ مَيل إلى الخطيئة. كما نلفت إلى أنّ مريم، والدة الإله، كانت طاهرة لا بسبب خلوّ الطّبيعة البشريّة الّتي اتّخذتها من أي نزعة إلى الخطيئة، بل لأنّها، شخصيًّا، كانت بارّة، لا بل أبرّ أهل الأرض، زهرة البشريّة بكلّ معنى الكلمة، وكذلك لأنّ الرّوح القدس حلّ عليها وقوّة العليّ ظلّلتها (لوقا 1: 35).
هذا هو موقف كنيستنا الأرثوذكسيّة. وليس هذا هو موقف الكنيسة الكاثوليكيّة الّتي تدّعي أنّ مريم، من لحظة الحبل بها، كانت حرّة من الموت ومن أيّ نزعة إلى الخطيئة، تمامًا كالرَّبّ يسوع المسيح نفسه له المجد. أي إنّ مريم، بلغة الكنيسة الكاثوليكيّة، كانت حرّة من “الخطيئة الجدّية”. هذا هو مضمون عقيدة الحبل بلا دنس عند الكاثوليك، الّتي أعلنت كعقيدة ملزمة، لأوّل مرّة، بعدما كانت رأيًا في الكنيسة، في 8 كانون الأوّل سنة 1854 م.
حبل حنّة في الخدمة اللّيتورجيّة
لو نظرنا في المعاني الّتي تتضمّنها خدمة هذا العيد، اليوم، لبانت لنا ملامح الصّورة الّتي ترسمها الكنيسة له. دونك بعض هذه المعاني:
- – حنّة امرأة عاقر لكنّها عفيفة، متألّهة العزم، حفظت، هي وزوجها، بدقّة، شريعة الله وتمّمت سنينها وعبدت الله بغير عيب. لهذا السّبب استجاب الله صلاتها وأزال عار عقرها وشفى بالأوجاع قلبًا موجعًا، فحملت حنّة الّتي ستلد بالحقيقة معطي الشّريعة. لذلك نحن المؤمنين نغبّطها.
- – ليس يواكيم وحنّة وحدهما المعنيَّين. كلّ البشريّة معنيّة بهذا الحدث العظيم. فيه تتجدّد وبه تبتهج لأنّ “عار العقر قد زال بجملته”. النّصوص تتحدّث عن حنّة، أحيانًا، بلغة المفرد وأحيانًا بلغة الجمع. حنّة رمز للبشريّة العاقر الّتي سرّ الرَّبّ الإله أن يخصبها بالحياة. خدمة اليوم تدعو الجميع إلى الفرح بالعيد. يا آدم وحوّاء، ويا إبراهيم ويا جميع رؤساء الآباء ويا جميع القبائل ويا أقطار الأرض اطرحوا عنكم الحزن وابتهجوا لأنّ علّة الفرح والخلاص للعالم تنبت اليوم من بطن عادم الثّمر.
- – اليوم تمّت أقوال الأنبياء. كلّ الرّموز الّتي أشاروا بها إلى والدة الإله تحقّقت. لهذا السّبب قالت إحدى أناشيد اليوم: “إنّ الجبل المقدّس يستقرّ في الأحضان. والسّلّم الإلهيّة تنتصب. والعرش العظيم للملك يُهيّأ. ومكان اجتياز الإله يُعدّ. والعلّيقة غير المحترقة قد أخذت في الإفراع. وخزانة طيب التّقديس “تفيض الآن أنهارًا…” (القطعة الثّالثة على يا ربّ إليك صرخت في صلاة الغروب).
- – وكما أنّ البشريّة بأسرها معنيّة بموضوع عقر حنّة وإثمارها، كذلك كلّ واحد منّا بصفة شخصيّة. الثّمرة هي الفضيلة والعقم هو الخلو منها. حنّة مثال لنا. فكما تمّمت أحكام الشّريعة وعبدت بلا عيب فمنّ عليها الرَّبّ الإله بوالدة الإله وأمّ الحياة، كذلك إذا حفظ كلّ منّا الوصيّة بأمانة وعبد باستقامة فإنّ روح الله يسكن فيه وتكون له الحياة الأبديّة. في أحد أناشيد قانون السَّحَر، اليوم، تضرّع إلى والدة الإله أن تقصي عن ذهننا العقيم عدم الإثمار بكلّيته وأن تُظهر أنفسنا مثمرة بالفضائل (الأودية الثّالثة. السّيّديّة).
هذا بعض مضامين العيد الّذي نحتفل به اليوم. ولعلّ خير خاتمة ننهي بها حديثنا عنه القنداق الّذي يعبّر عن شموليّته وتدبير الله فيه باقتضاب:
“اليوم تعيّد المسكونة لحبل حنّة الّذي هو من الله لأنّها ولدت الّتي ولدت الكلمة بما يفوق الوصف”.