في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*أبونا القدّيس البار هيلاريون الغزّاوي العظيم*الشّهداء غايوس وداكيوس وزوتيكوس *القدّيس البار فيلوثاوس الآثوسيّ*الشّهيد الجديد يوحنّا مونمباسيا *القدّيس البار يعقوب جبل الأوليمبوس *القدّيسان بلانتان وسلام *الشّهداء استفانوس وبطرس وبولس ورفاقهم*القدّيس البار هيلاريون لافرا كييف *الأسقف هيلاريون موغلين المقدوني *القدّيس البار هيلاريون بسكوف *القدّيسان البارّان ثيوفيلوس ويعقوب بسكوف *القدّيسان الكاهنان الرّومانيّان المُعترفَان موسى ويوحنّا *القدّيس البار فانتان الإيرلنديّ*الشّهداء الرّوس الجُدُد بولينوس وداميانوس ومَن معهما *القدّيس الشّهيد زكريّا *القدّيسة ثيودوتا والقدّيس الشّهيد في الكهنة سُقراط *الشّهيد أفقراتوس *الشّهيد أزيس.
* * *
✤تذكار أبينا البار هيلاريون العظيم (+ 371 م)✤
وُلِدَ هيلاريونª في قرية قريبة مِن غزّة في فلسطين اسمها تاباثا في العام 291 للميلاد. وكما تنمو الوَردة بين الأشواك هكذا نشأ في عائلة وثنيّة وكانت مَظاهر الحياة الوثنيّة تحتفّ به من كلّ صَوْب. ولما كان ذووه من ذوي اليسر أرسلوه إلى مدينة الإسكندريّة ليدرس فيها على المعلّمين الكبار. هناك قاده طلبه للعلم إلى مجالسة بعض المعلّمين المسيحيّين فاهتدى بواسطتهم إلى الرَّبّ يسوع فآمن واعتمد.
وإذ كان صيت القدّيس أنطونيوس الكبير قد ذاع، يومذاك، في سائر مِصرَ فقد دفعت محبّة العلم الإلهيّ هيلاريون إلى زيارته. ويقال إنّ القدّيس أنطونيوس عندما التقى هيلاريون رأى فيه إناءً عظيمًا لروح الرَّبّ فعلّق بالقول: “ها قد حضر إلينا النّجم المُنير المُشرق في الصّباح“. فكان جواب هيلاريون: “سلام عليك يا عمود النّار حامي الخليقة“.
أقام هيلاريون ردحًا من الزّمان بجانب أنطونيوس بعدما رأى الحياة الملائكيّة الّتي كان يسلك فيها. لكنّ إقامته عنده لم تدم طويلًا لأنّ زائري القدّيس أنطونيوس كانوا كُثُرًا، ممّا لم تكن لهيلاريون طاقة على احتماله بسبب طَراوَة عوده وحداثة عهده بالرّهبنة. فعاد إلى فلسطين بعدما باركه أنطونيوس وزوّده بإرشاداته وأعطاه رداء الجلد خاصته وإسكيم الرّهبنة.
انصرف هيلاريون برفقة بعض المُتحمّسين للحياة الملائكيّة إلى برّية قريبة من مايوما، وهي مرفأ غزّة، في العام 307 للميلاد. هناك اندفع لأكثر من خمسين سنة في صراع مرير ضدّ أهواء النّفس والجسد وضدّ الأرواح المُضلِّلة المُقيمة في تلك البقعة المُنعزلة. وحدهم اللّصوص بين الإنس كانوا يعبرون بالمكان من وقتٍ إلى آخر.
دخل عليه اللّصوص، يومًا، وهو راكع يصلّي في مغارته فقالوا له: “ألا تخاف اللّصوص؟” فأجاب: “مَن لا يملك شيئًا لا يخاف أحدًا“. فقالوا: “ألا تخشى الموت؟” فقال: “كيف أخشاه وأنا أستعدّ له كلّ ساعة“. فأثّر فيهم كلامه وعزموا على تغيير سيرتهم.
جهاد هيلاريون كان بُطوليًّا رغم حداثة سنّه، فقد كانت أصوامه قاسية: بَعضًا من التّين المُجفّف بعد غروب الشّمس. أمّا نهاريه فقد اعتاد أن يقضيها في الصّلاة وتلاوة المَزامير وفلاحة الأرض اليابسة دون أن يكون للتّربة ما تنتجه. همّه كان أن يدفن في التّراب أعراقه حتّى يُضعِف نفسه فلا تثور عليه أهواؤه.
وإذ رأى الشّيطان أنّ صبيًّا صغيرًا تجرّأ على مُهاجمته في عقر داره، بدأ يشنّ عليه الهجمة تلو الهجمة. وكما فعل الأبالسة بالقدّيس أنطونيوس، فعلوا بهيلاريون، فأخذوا يَظهرون له في شكل حيواناتٍ شرسة مفترسة ليزرعوا الرّعب في قلبه، كما أخذوا يُحدثون جلبة مرهبة لا تفسير لها. كلّ ذلك لم يؤثّر في الشّاب هيلاريون لأنّه بنعمة الله وثباته وإشارة الصّليب كان يطرد عن نفسه كلّ هذه الرّؤى والأصوات الغريبة.
ولسنين أقام هيلاريون في قلاية صغيرة هي أقرب إلى القبر منها إلى البيت يفترش الأرض الصّلبة ولا يستبدل ثوبه إلّا بعد أن يهترئ ويتشقّق. كان يعرف الكتاب المُقدَّس عن ظهر قلب ويتلوه برعدة كما لو كان السّيّد حاضرًا أمامه. اعتاد أن يغيّر نوع الطّعام الّذي كان يتناوله مرّة كلّ بضع سنوات. فتارة يَقتات بالعدس المَنقوع وتارة بالخبز والملح والماء وطورًا بِبُقول الأرض. وعندما كان يشعر بالوَهن الشّديد أو يُصيبه مرض كان يضيف إلى وجبته قليلًا من الزّيت. في كلّ حال تمسّك هيلاريون بعدم تناول الطعام إلّا بعد غروب الشّمس، كما حافظ على أصوامه حتّى في الأعياد وحالات المرض، إلى آخر حياته.
كلّ هذه الأصوام والأسهار والأتعاب والجهادات الخارقة أسكتت في هيلاريون أهواء النّفس والجسد فنَمَا في النّعمة والقامة وانفتح قلبه رحبًا على مُعاينة النّور الإلهيّ. وقد منّ عليه الله بموهبة صنع العجائب فشفى المرضى وطرد الشّياطين. شهرتُه طبّقت الآفاق وهو بعد في الثّانية والعشرين. وكُثُر هم الّذين تسابقوا إليه لأخذ بركته والإنضواء تحت لوائه. وابتداء من العام 329 للميلاد أخذ التّلاميذ يتحلّقون حوله.
هكذا أضحى القدّيس هيلاريون في فلسطين ما كان عليه القدّيس أنطونيوس في مصر لأنّ الرّهبنة في فلسطين وسوريّا، آنئذ، لم تكن قد انتشرت بعد. غير أنّ هيلاريون حفظ الصّلة بالقدّيس أنطونيوس واعتبره لنفسه أبًا.
بلغ عدد الّذين اجتمعوا إلى هيلاريون من طلاّب حياة التّوحّد قرابة الألفين. هؤلاء أقاموا الأديرة، وكان هيلاريون أبًا لهم يزورهم مرّة في السّنة في أواخر الصّيف، يزوّدهم بحاجات الجسد للسّنة كلّها ويحتفّون به فيعلّمهم.
أتت جماعة من الإخوة مرّة إليه وسألته: “ما هي علامة فضل الرّاهب؟” فأجاب: “كثرة الحبّ والإتضاع يزينان الرّاهب ويشرّفانه في الدّنيا وفي الآخرة، فيجب أن تكون له هذه الخصال: أن يكون عاقلًا، عالمًا، مُحتمٍلًا، صبورًا، وقورًا، كتومًا، شَكورًا، مُطيعًا، مُداومًا الصّمت، مُتوفّرًا على الصّلاة“. فقالوا: “إذا ما اجتمعت هذه الخصال في إنسان فهل يُسمّى راهبًا؟” قال: “نعم، إنّه راهب إذا تعب كذلك وشقي بمقدار ما تصل إليه قوّته“.
ولما بلغ هيلاريون الثّالثة والسّتّين وازداد عدد الزّائرين والمرضى وحاجات الإخوة فوق الحدّ قرّر الانصراف إلى الصّمت. وبالجهد أقنعهم بتركه يذهب. فقط أربعون من تلاميذه رافقوه.
توجّه هيلاريون شطر جبل القدّيس أنطونيوس بعدما انتهى إليه خبر رقاده. فذرف على كلّ موضع عبر فيه القدّيس الدّموع السّخِيّة ساجدًا مصلّيًا. ثمّ انتقل إلى برّية الإسكندريّة فأقام في هدوئها زمنًا إلى أن أخرجه منها إقبال النّاس عليه من جديد.
بعد ذلك تحوّل إلى ليبيا، لا سيّما وقد أمر يوليانوس الجاحد بإلقاء القبض عليه. ومن ليبيا جاء إلى صقليّة لأنّه قال إنّ أحدًا هناك لا يعرفه، لكن محبّته ألزمته بشفاء المرضى وطرد الشّياطين هناك أيضًا، فصار النّاس يتقاطرون عليه من كلّ صوب.
ومن جديد غيّر مكانه فجاء إلى دلماتيا ثمّ إلى قبرص. وحيثما حلّ كانت الجموع تُلاحقه، فصلّى أن ينعم عليه الله بمكان يرتاح فيه إلى السّكون فأشار إليه الرّوح بمغارة في قبرص يتعذّر الوصول إليها فأقام فيها خمس سنوات إلى أن بلغ الثّمانين ورقد بسلام في الرَّبّ. ثمّ إنّ تلميذه هيزيخيوس سرق جثمانه من هناك في غفلة عن عيون المؤمنين وعاد به إلى الدّير في مايوما ليكون بركة وتعزية للرّهبان ولسائر المؤمنين.
تعيّد للقدّيس هيلاريون اليوم الكنيسة الجامعة بأسرها، شرقًا وغربًا.
ª – إن الفضل في معرفتنا، بصورة أساسية، بالقدّيس هيلاريون هو للقدّيس إيرونيموس (342 – 420 م).