نشرة كنيستي- الأحد (2) بعد العنصرة- العدد 25
18 حزيران 2023
كلمة الرّاعي
يوحنّا المعمدان
صوت الكلمة ومصباح النّور
الدُّنيا كلماتٌ منطوقة بمحبّة الخالق. والكلمة الإله (Logos) هو الخالق بالرُّوح القُدُس بحسب مشيئة الأب. لا شيء ممّا كُوِّن إلَّا ومعروف لدى الله، أمَّا الله فمعروف عند الكائنات العاقلة أي الملائكة والبشر وهو معروف منها في خليقته. لكنّ كلّ مخلوق له ”كُلَيْمَة“ في فكر الكلمة (Logos) أي في فكر الله، دون أن يكون للمَخلوق وجود قبل انوجادِهِ في الزَّمان والمكان. الله يعرف كلَّ شيء، هذه خاصّيّته، هو الكلّيّ المعرفة…
خاطبنا الله الآب بالابن منذ البدء، والابن عرفناه في الرُّوح القُدُس، لأنّ الكلمة (أي الصَّادِرَة مِنَ الـ Logos) تفعل فعلها بالرُّوح، والرُّوح هو الَّذي يحقِّق الكلمة المنطوقة من الآب بالابن…
هذه ليست فلسفة إنّها حقيقة وجودنا. من هنا، لا يعرف الإنسان نفسه ما لم يعرف الكلمة (Logos)، ولا يستطيع أنْ يعرف الكلمة (Logos) إلَّا بالرُّوح، ولا يتقبَّل فعل الرُّوح القُدُس ما لم يؤمن بالكلمة…
* * *
يوحنّا المعمدان ”لَمْ يَكُنْ هُوَ النُّورَ، بَلْ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ“ (يو 1: 8). الكلمة كان هو النُّور ”وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا“ (يو 1: 14).
دَوْرُ يوحنّا المعمدان كان أنْ يُمهِّد الطَّريق للمَلِك والسَّيِّد. هو عَرَفَ النُّور لذلك استطاع أنْ يشهد للنُّور. هو عَايَنَ مَجْدَ المسيح في كونه ”حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!“ (يو 1: 29). معرفة يوحنّا للكلمة ليست تحليليَّة بل هي كشفٌ إلهيٍّ: ”وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ، لكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ، ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلًا وَمُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ، فَهذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هذَا هُوَ ابْنُ اللهِ…“ (يو 1: 33—34).
بنوّة الكلمة للآب تكشف أبوّتَه، وأبوّة الآب للكلمة تكشف بنوّتَه. وهذا الكشف أُعطي لنا بالرُّوح القُدُس الإله الَّذي بمشيئة الآب أَعلنَ سرّ الابن المتجسِّد حين نزل واستقرَّ عليه. وشهادة يوحنّا أنّ الآب أرسل الابن لخلاص العالم بقوّة الرُّوح الَّذي يعطيه للمؤمنين به بواسطة المعموديَّة. يوحنّا كان شاهدًا لِسِرِّ الله المثلَّث الأقانيم ببساطة التّسليم للَّذي اختاره قبل أن يُحبَلَ به في الحشا إذ انسكب عليه روح الرَّبّ حين التقى الطِّفل الإلهيّ في أحشاء مريم البتول الطّاهرة.
أيُّها الأحبَّاء، كلّنا مدعوٌّ ليكون صوتًا للكلمة ومصباحًا حاملًا نوره، على مثال يوحنّا المعمدان. السّبيل إلى حمل هذه الشّهادة هو التَّخَلِّي عن كلِّ مَجْدٍ زائِلٍ، إذ الَّذين يطلبون مجد البشر يخافون أنْ يَخْسَرُوا هذه الدّنيا وما فيها، لكنَّ مجد الله لا يُستَعلن في الَّذين يخضعون للعالم بل في الَّذين يغلبون العالم، ”وَهذِهِ هِيَ الْغَلَبَةُ الَّتِي تَغْلِبُ الْعَالَمَ: إِيمَانُنَا“ (1 يو 5: 4).
نحن في زمنٍ يُمتَحَنُ فيه إيماننا على كلّ الصُّعُد، والكنيسة يجب أن تشهد لإيمانها كما شهد يوحنَّا المعمدان بجرأةٍ وشجاعَةٍ وصراحَة. العالم لا يقبل كلمة الله ولن يقبلها طالما هو تحت سلطان إبليس أي خاضع للخطيئة.
الكنيسة تحتاج إلى توبةٍ أي كلّنا إكليروسًا وعلمانيّين يجب أنْ نَتوب، أنْ نعود إلى الله، أنْ نُحارِب العالم في جسدنا وبيئتنا لكيما بالطَّهارة نواجه عالم الرَّجاسَة والنَّجاسَة الَّذي يُحاربنا فرديًّا وجماعيًّا بخطّة شيطانيّة مُمَنْهَجَة.
اليوم، نحن مَدعوُّون إلى جرأةِ يوحنّا وحرِّيَّةِ ضميره في الله لنكون شهودًا للحَقّ والنُّور في ظلمة هذه الفانية، علينا أنْ نكون غلبة الإيمان في عالم الإلحاد واللّامُبالاة، في عالم الفساد والإفساد في هذا الزَّمَن الَّذي يُحارب فيه المسيح عبر السَّعِي لمسخ الإنسان في تشييئه من خلال اللَّذَّة والتّسلُّط عليه وفرض أفكار وعقائد غريبة عن حقيقته كصورة الله…
فلْنَكُن يُوحَنَّاوِيّين بِعَدَم مُحاباتِنا للوُجوه وصدق شهادتنا للحَقّ ومعمدانيّين إذ نسعى لتعميد العالم ”بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ“ (أف 5: 26) …
ليُعطنا الله أنْ نَثْبُتَ في الإيمان ونشهد للرَّجاء في خدمة المحبَّة ليتعزّى المُتألِّمون ويشفى المرضى وينهض السّاقطون ويفرح الحزانى بالمسيح النّذور والحياة والسّلام…
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما