Menu Close

نشرة كنيستي- الأحد (1) بعد الفصح (أحد توما)- العدد 19

12 أيّار 2024

كلمة الرّاعي 

يا توما لا تكن غير مؤمن…

إنْ لم أُعايِنْ أثرَ المساميرِ في يدَيْهِ وأضَعْ إصبَعي في أثرِ المساميرِ وأضَعْ يدي في جَنبِهِ لا أُومنِ” (يو 20: 25)

ظهر الرَّبُّ لتلاميذه بعد قيامته وهم يختبئون في العِلِّيَّة خوفًا من اليهود. جاء إليهم والأبواب مغلقة، وقد دحض اضطرابهم وأسبغ عليهم سلام حضوره الإلهيّ الَّذي لا يُسلب منهم. توما لم يكن معهم حينئذ، وعندما أخبروه بما حدث، رفض أن يصدِّقَهم إلَّا إذا تحقَّق بنفسه من الأدِلَّة. كان موقفه منطقيًّا، وقد نَجِدُ فيه اليوم شيئًا مُثيرًا للدَّهْشَة، نظرًا لوُجود أحد عشر شاهِدًا على الأقلّ على ما رووه. ولكن، هذه هي طبيعة الإنسان، أنَّ الشَّكَّ يغلب عليه. شكّ توما يعكس حقيقتنا نحن الَّذين ما زلنا نطلب اللَّمس لنؤمن… وكلَّما اقتربنا من حقيقة الله في حياتنا، نعتقد أنَّ إيماننا قد تعزَّز، لكنَّنا نجد أنفسنا نعود مجدَّدًا إلى الشَّكِّ ونسعى للَمْسَةٍ تؤكِّد إيماننا…

أهميَّة شكّ توما بالنِّسبة لنا هي أنّه منذ بدء إعلان القيامة تمّ التَّحَقُّق من واقعيّتها بواسطة توما الَّذي أراد أن يعاين أثر المسامير في يديّ المعلِّم وأن يضع إصبعه في اثر المسامير وأن يضع يده في جنبه… لدينا من خلال توما اليَقين بأنَّ جسد يسوع الممجَّد، الَّذي قام به من بين الأموات، هو حقًّا الجسد الأوَّل بعد أن تحوَّل بالقيامة إلى جسد ولكن مختلف عن القديم. هذا الجسد يتمتَّع بخصائص مختلفة عن الجسد الأرضيّ الأوَّل، فقد دخل الرَّبُّ إلى التَّلاميذ والأبواب مُغْلَقَة. إنَّه جسدٌ من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى يتمتَّع بخصائص روحيَّة، إذ لم يعد خاضعًا لقيود الطَّبيعة الأولى من حيث الكثافة والمكان والزَّمان والشَّكل…

*         *         *

إنّ شكّ توما، في قيامة المسيح قبل أن يشهد بنفسه حقيقة الجروح ويؤمن، يعلِّمنا عن أهميَّة الإيمان الَّذي يأتي من خلال التَّجربة الشَّخصيَّة والتَّأمُّل العميق، وكذلك عن رحمة المسيح الَّتي تتجاوز شكوك البشر وضعفاتهم… كلّ إنسان لا يستطيع أن يؤمن ما لم يدخل في خبرة علاقة شخصيّة وحَيَّة مع الله. الله حيّ وتاليًا لا يستطيع من ينظر إلى الله على أنّه فكرة أو قوّة أو كائن متسامي متعالي لا صلة مباشرة له مع البشر أن يعرفه وأن يؤمن به. صحيح انّ الإيمان هو تسليم بوجود الله، لكنّه أيضًا خبرة العيش مع الله واكتشافه أو بالأحرى تقبّل كشفه لنا عن ذاته… وما تجاوب الرَّبُّ يسوع مع شكوك توما وطلبه إليه أن يضع إصبعه في أثر المسامير ويده جنبه سوى تعبير عن رحمة الله اللّامتناهية لنا بإزاء ضعف إيماننا وقلّة ثقتنا به، لأنّه يريد في النِّهاية خلاص الخاطئ…

بناءً عليه، الشَّكّ ليس نقيض الإيمان بل قد يكون بداية الطَّريق نحو إيمانٍ أعمق وأثبت من خلال الَّتيقُّن من حضور الله وعلاقته الشّخصيّة بكلّ إنسان في خبرات يلمس فيها هذا الأخير محبّة الله له وتنازله إلى مستوى التَّحدّيات الوجوديّة والكيانيَّة الَّتي يواجهها من خلال حضوره معه فيها ليكشف له حبّه له. فالشَّكّ ليس دليلًا على رفض الإيمان بل هو برهان على صدق البحث عن الحقيقة وعن الله.

من هنا، توما لم يرفض الإيمان، بل طلب تجربة حقيقيَّة تؤكِّد إيمانه، وذلك لأنّ إيمانه لم يكن بعد مقدار “حبّة الخردل”، فشكّه كان بطريقة من الطُّرق طلبًا إلى الرّبّ أن يزيد إيمانه ويثبّته… لأنّه كان يتشوّق إلى أن يكون الرَّبُّ حقًّا قد قام ليتحرَّر من الخوف ويسلك في حرّيّة أبناء الله. من هنا نفهم أنّ رحمة المسيح تعلِّمُنا أنَّ الله يلتقي بنا في مستوى إيماننا ويقودنا نحو الحقيقة.

*         *         *

أيّها الأحبّاء، لا ينبغي أن يكون الإيمان مُجَرَّد تقليد للآخَرين بل يجب أن ينبع من تجربة شخصيَّة واقعيَّة. توما خاض تجربته الخاصَّة الَّتي أدَّتْ به إلى الإيمان الرَّاسِخ. وذلك لأنّ المسيح لم يدُنْ توما لِشَكِّهِ بل قدَّم له الدَّليل الَّذي احتاجه ليؤمن. والرَّبُّ يصنع هذا مع كلّ إنسان يطلب الحقيقة ويريد أن يؤمن بصدق. فالرَّبّ لا يبخل على أحد بالدَّليل عن وجوده وحقيقته، لكن في المقابل يجب أن يتمتّع الإنسان بالاتّضاع ليقبل الاعتراف بأدلّة الله له. كبرياء الإنسان يمنعه أن يؤمن، كما يقول الكتاب: “إِنْ كَانُوا لاَ يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ، وَلاَ إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ” (لو 16: 31).

كلّ إنسان محبوب من الله، وللرَّبِّ به علاقة خاصَّة ووَحيدة، لأنّ محبّة الله للإنسان هي شموليّة للجماعة وخاصّة لكلّ شخص، وهي واحدة ومتساوية للكلّ ومميَّزَة لكلّ شخص في آن معًا، وهذا يعتمد على كيفيَّة وطريقة وعمق تجاوب كلّ إنسان مع هذه المحبّة الإلهيَّة.

توما أطاع نداء المسيح القلبيّ له فتجاوب بالاتّضاع والاعتراف إذ صرخ: “ربّي وإلهي”، مُقِرًّا بضعفه ومستغفرًا عنه وشاهدًا على إيمانه بشهادته لقيامة المسيح وربوبيّته وألوهيّته، وبطرده كلّ شكّ بيقين المُعاينة واللَّمس لمحبّة يسوع المسيح غير المُتناهية…

الله يحبِّنا ولا يترك أحدًا من طالبيه بصدق دون أن يقدِّم له البرهان ليتأكَّد من حقيقة الإيمان ونعمة الحياة الجديدة في المسيح يسوع، الَّذي غلب الموت وقام بالجسد من بين الأموات، رافعًا معه الإنسانيَّة الجديدة إلى ملكوت السَّماوات عن يمين الآب ومحقِّقًا في ذاته الخلاص الَّذي تمّ وصار مُتاحًا للبشرية جمعاء من خلال الإيمان به وبغلبته على الموت والخطيئة والشّرّير بالقيامة…

ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…

المسيح قام!         حقًّا قام!

       + أنطونيوس

متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما

مواضيع ذات صلة