Menu Close

نشرة كنيستي- الأحد (21) بعد العنصرة- العدد 46

17 تشرين الثّاني 2024

كلمة الرّاعي 

هيكل الرّبّ

“أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ، وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟” (1 كو 3: 16)

ليسَ البحثُ في دخولِ الطِّفلَةِ مريمَ ابنةَ يواكيمَ وحنَّةَ إلى الهيكل تاريخيًّا بل هو لاهوتيٌّ، لأنّ الهيكلَ في العهدِ القديمِ هو مطرحُ سُكنى الله، هكذا كانَ يرى اليهودُ المسألةَ، أمَّا الرَّبُّ فهو لا يَسكُنُ في هياكلَ من صُنعِ أيدي البشرِ (راجع 2 صم 7)، لأنَّهُ صَنعَ الإنسانَ هيكلًا له ليسكُنَهُ إلى الأبدِ…، ومع ذلكَ سمحَ الرَّبُّ لابنِ داودَ سليمانَ أنْ يَبنيَ له هيكلًا لسُكنى مجدِه. أمَّا مريمُ الفتاةُ الَّتي اختارَها اللهُ لتكونَ أُمًّا لابنِهِ الوحيدِ، المولودِ منه خلوًّا من زمنٍ، فهيَ الهيكلُ الَّذي سَبقَ اللهُ فحدَّدَهُ، بسابقِ علمِه، ليَخرُجَ منه “الَّذي يَكونُ مُتَسَلِّطًا على إسرائيلَ، ومَخارِجُهُ مُنذُ القَديمِ، مُنذُ أَيَّامِ الأَزَلِ” (مي 5: 2). من هنا، ليسَ مُستغرَبًا في تدبيرِ اللهِ لتهيئةِ الفتاةِ البتولِ أنْ يَجعَلَها في هيكلِه تتربّى على غذاءِ كلمتِهِ بروحِهِ القدوسِ إلى أنْ يتصوّرَ فيها الكلمةُ الإلهيُّ إنسانًا كاملًا ويُولَدَ لخلاصِ البشريّةِ جمعاء…

*       *       *

كُلُّ مُؤمِنٍ بِيَسُوعَ الـمَسِيحِ يَصيرُ بِالمَعمُودِيَّةِ هَيْكَلًا للهِ لأَنَّ رُوحَ الرَّبِّ القُدُّوسَ يَسكُنُ فيهِ وَيَستَقِرُّ، وَهُوَ تالِيًا مَملُوءٌ مِنَ الحُضُورِ الإلهيِّ سِرِّيًّا (sacramentally)، هذا الحُضُورُ الفاعِلُ بِالنِّعْمَةِ بِحَسبِ تَجاوُبِ الإنسانِ مَعَ المَشِيئَةِ الإلهِيَّةِ. النِّعْمَةُ الإلهيَّةُ هِيَ قُوَّةُ اللهِ وَهِيَ طاقَةٌ لا مَحدُودَةٌ بِها يَصيرُ الإنسَانُ شَبيهًا بِاللهِ في صِفَاتِهِ. هَذا ما عَبَّرَ عنهُ الرَّسُولُ بُطرُسُ في رِسالَتِهِ الثّانِيَةِ بِأنَّنَا نَصيرُ “شُرَكاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ” (1: 4). أَن نَكونَ هَيكَلَ اللهِ هُوَ أنَّنَا شُرَكاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ، لَيسَ بِحَسَبِ الجَوْهَرِ بَل بِحَسبِ النِّعْمَةِ، لأَنَّ الجَوْهَرَ الإلهيَّ واحِدٌ هُوَ وَوَحيدٌ لِلهِ وَلا شَرِيكَ لهُ فيهِ، بَل الآبُ وَالابنُ وَالرُّوحُ القُدُسُ هُم مُتَساوُونَ فيهِ. فَالطَّبيعَةُ هِيَ التَّعبيرُ عَنِ الجَوْهَرِ وَهيَ المَمدُودَةُ كَقُوًى إلهِيَّةٍ وَنِعْمَةٍ إِلَينَا لِنَشترِكَ فِيها بِهَذِهِ الطَّريقَةِ فَنَتَّحِدَ بِاللهِ الآبِ في الرُّوحِ القُدُّسِ بِواسِطَةِ الابْنِ، وَهَكَذا نَصيرُ وَرَثَةَ الدَّهْرِ الآتي وَمَلَكُوتَ اللهِ…

النِّعْمَةُ الإِلهِيَّةُ هِيَ الَّتي تَمْنَحُنَا الإِمكانِيَّةَ لِعَيشِ الإِيمَانِ بِالفَضِيلَةِ، وَالفَضِيلَةُ تُعَاشُ عَنْ مَعرِفَةٍ أَي عَنْ خِبرَةٍ، وَهَذِهِ المَعرِفَةُ تَتَجَسَّدُ في التَّعَفُّفِ، وَالتَّعَفُّفُ جَوهَرُهُ الصَّبرُ، وَالصَّبرُ في جِهَادِ طَاعَةِ الكَلِمَةِ يُولِّدُ التَّقوَى، وَالتَّقوَى تَتَجلَّى مَودَّةً أَخَوِيَّةً أَي لُطفًا وَعَطفًا، وَالمودَّةُ كَمالُها المَحبَّةُ على صُورَةِ مَحبَّةِ اللهِ لَنَا في المَسِيحِ يَسُوعَ… (رَاجِع 2 بط 1: 4 – 7). وَهَذِهِ كُلُّها لا يُمكِنُ تَحقِيقُهَا مَا لَم نَغلِبِ الكَسَلَ، وَمَتى غَلَبْنَا الكَسَلَ أَثمَرَت فِينَا هَذِهِ حُضُورًا إِلهِيًّا وَجَعَلَتْنَا هَياكِلَ مُتنقِّلَةً على رَجلَينِ…

*       *       *

أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، مَريَمُ الفَتاةُ مِثالٌ لَنَا في التَّكرِيسِ لِلَّهِ، وَنَحنُ إِن عِشنا عِيشَتَهَا صِرنَا مُشَابِهِينَ لَهَا في الفَضِيلَةِ، وَفَضِيلَتُهَا الأُولَى عِشقُ الكَلِمَةِ الإِلهيَّةِ الَّتي مِنْهَا يَنْبُعُ كُلُّ صَلاحٍ وَبِرٍّ وَصَلاةٍ وَعَمَلٍ وَنِعْمَةٍ. نَحنُ المُؤمِنونَ عَلَيْنَا وَاجِبٌ تُجَاهَ هَذَا العالَمِ وَلَنَا دَوْرٌ وَشَهَادَةٌ أَنْ نَحْمِلَ البُشرَى السَّارَّةَ إِلَى الَّذِينَ “فِي الظُّلْمَةِ وَظِلَالِ المَوْتِ” (لو 1: 79)، لِإِنَارَةِ حَيَاتِهِمْ وَالعَالَمِ أَجْمَعَ بِعَيْشِ الفَضِيلَةِ وَكَشْفِ حُضُورِ اللهِ بِالمَحَبَّةِ الفَاعِلَةِ بِالخِدْمَةِ لِلتَّعزِيَةِ وَالشِّفَاءِ مِنْ آلَامِ الأَهْوَاءِ وَأَمْرَاضِهَا، وَلِدَحْضِ أَعْمَالِ الشَّرِّ.

المَسِيحُ يَسُوعُ، هُوَ الَّذِي عَنْهُ “يَقُولُ إِشَعْيَاءُ: ‘سَيَكُونُ أَصْلُ يَسَّى وَالقَائِمُ لِيَسُودَ عَلَى الأُمَمِ، عَلَيْهِ سَيَكُونُ رَجَاءُ الأُمَمِ” (رو 15: 12). بِدُونِ يَسُوعَ المَسِيحِ لا رَجَاءَ لِلعَالَمِ بِحَيَاةٍ أَفْضَلَ (راجع يو 10: 10)، وَهَذِهِ الحَيَاةُ قَدْ أُعْطِيَتْ بِهِ في الكَنِيسَةِ، وَالمُؤْمِنُونَ بِهِ هُم نَاقِلُوهَا في العَالَمِ وَكَاشِفُوهَا بِرُوحِهِ إِذَا مَا أَدْرَكُوا دَعْوَتَهُمْ وَتَكْرِيسَهُمْ لِلَّهِ وَعَاشُوا مَرْيَمِيِّينَ، أَي مُتَقَبِّلِينَ لِلْكَلِمَةِ حَيَاةً لَهُمْ وَلِرُوحِهِ قَائِدًا وَمُطَهِّرًا وَمُثَبِّتًا إِيَّاهُمْ فِيهِ (أَي في يَسُوعَ).

سَعْيُنَا كَمُؤْمِنِينَ أَنْ يَصِيرَ العَالَمُ كُلُّهُ هَيْكَلَ اللهِ أَي مَطْرَحَ مُلْكِهِ وَتَجَلِّي مَجْدِهِ بِالفَضِيلَةِ النَّابِعَةِ مِنْ تَكْرِيسِنَا لَهُ وَتَسْلِيمِنَا حَيَاتِنَا إِلَيْهِ لِيَصِيرَ هُوَ حَيَاةَ العَالَمِ وَالكُلَّ في الكُلِّ…

وَمَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ…

+ أنطونيوس

متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما

مواضيع ذات صلة