نشرة كنيستي- أحد البارّة مريم المصريّة- العدد 15
10 نيسان 2022
كلمة الرَّاعي
مِثَالُ مريم المصريّة
غَادرت بيت والدَيها ابنة اثني عشر ربيعًا لتطلُبَ لذائذَ الجسد. شُغِفَتْ بعشق ذاتها ونضارة بَدَنها واعتبرت ذاتها إلَهة الحبّ كما في أساطير أديان الإغريق، مع أنّها كانت ابنة بيت مسيحيّ ومُعمَّدة. هذا الواقع غريب ويطرح أسئلة عديدة حول واقع بيتها وتربيتها، وكيف استطاعت أن تخرج عن وصاية أهلها وهي في عمر صغير.العيشة في المدن الكبرى، الإسكندريّة موطن رأس القدّيسة مريم المصريّة كانت في حينها من أهم عواصم العالم الرّومانيّ، هذه العيشة إذا راقبناها اليوم نرى أنّ الحقيقة هي نفسها إذ أنّ حياة العواصم حياة دهريّة بامتياز، النّاس فيها مشغولون بأعمالهم ومستوى العيش الَّذي يطمحون إليه. كثيرون من أولادنا اليوم قد يكونون معرَّضين لما عاشته مريم المصريّة الطّفلة من طغيان شهوة الجسد على كيانهم ووجودهم. بعد سبعة عشر عامًا في العيش لأجل اللّذة رَغِبَتْ بالحجّ إلى أورشليم في عيد رفع الصَّليب الكريم. فذهبت على السَّفينة ودفعت ثمن رحلتها لممارسة البغاء مسقطة عددًا من الحجّاج الشّباب في الرّذيلة. في أورشليم ظنّت أنّها ستدخل مثل باقي النّاس إلى الكنيسة وكأنَّ الله لا يرى ولا يعرف حقيقة كلّ بشر، فمنعها الرَّبُّ من دخول كنيسته إلى أن تفَجَّرَت توبتها في قلبها بنعمة إلهيّة مدمِّرةً صنم ذاتها الَّذي كانت تعبده ومختَبِرةً حقيقة أنّ يسوعَ المسيح هو الإله والمخلِّصُ من عبوديّة الأنا…. ومن نتانة موت الخطيئة. والدة الإله تشفّعت بها وأدخلتها إلى حضرة ابنها المصلوب، فسجدت عند قدميه وصليبه ذارفة دموع معموديّة جديدة بروح الرَّبّ، ومن ثمَّ قادها روح الرَّبّ إلى البرّيّة لتُجرَّب وتغلِب عشقها للّذة لعشقها للمسيح. دامت تجربتها هذه سبعة عشر سنة تحرَّرت بعدها من كلّ ذكريات جسدها ومنحها الرَّبّ أن يستقرّ فيها روحه القدُّوس فصارت ممتلئة من: “المحبّة والفرح والسّلام وطول الأناة واللُّطف والصَّلاح والإيمان والتعفُّف” ( راجع غلاطية: ٢٢:٥ ).
* * *
مريم المصريّة مثال ونموذج لنا في هذا الزّمن الجسدانيّ بامتياز، حيث تتمحور حياة البشر حول اللَّذات والشَّهوات والمال والظّهور والكبرياء، باختصار تتمحور حياة البشر اليوم حول أنانيّتهم واستهلاكهم للوجود وكلّ موجود لأجل أنفسهم.
مريم المصريّة ذهبت إلى المنتهى في هذا المجال لكنّها ازدادت خواءًا وفراعًا تآكلها كالسّرطان وملأها بالأوجاع النّفسيّة والرّوحيّة والجسديّة الَّتي لا تُحتَمل ولا تُطاق. الرَّبّ في ألمها الكيانيّ لمسها بحنانه عبر صدَّها عن إتمام مشيئتها في إتمام أمرٍ بسيط هو دخولها إلى الكنيسة فصار لها هذا الدُّخول عبورًا من مضرّ الأهواء إلى صحراء الكلمة الإلهيّة واستقرارًا في ملكوت الله بيسوع الَّذي أدخلها أرض الميعاد لمّا تناولت من يد الرّاهب زوسيما جسد ودم الرَّبّ منتقلة بعدها إلى نور وجه المسيح والحبّ الإلهيّ المحرِّر فصارت لنا ولكلّ زمن أيقونة رجاء بالغلبة على العالم وكلّ ما في العالم بالتّوبة المحرَّكة بالحبّ بنعمة الرُّوح الإلهيّ. اليوم، نحن أيضًا، قادرون بشفاعة القدّيسة مريم المصريّة واحتضان والدة الإله مريم أن نتوب إلى يسوع ونغلب به كلّ شوقٍ وكلّ ألمٍ في هذا العالم.
ومن له أذنان للسّمع فليسمع.
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما