نشرة كنيستي– الأحد (5) من الصَّوم (البارّة مريم المصريّة)- العدد 16
21 نيسان 2024
كلمة الرّاعي
مُعلّمة التّوبة
“اِشْهَدِي عليّ (يا والدة الإله) إنّي لن أنجّس جَسَدي بعد اليوم بِدَنَسِ الدَّعارة، بل حالما أسجد لِعُود الصّليب سأنبذ العالم وتجارب العالم وأتوجّه إلى حيث تقوديني (…) سَمِعَتْ صوتًا من السَّماء يَقول لها إذا عَبَرْتِ الأردن تجدين راحةً مَجيدةً …” (من سيرة القدّيسة مريم المَصريّة).
مريم المَصريّة فتاةٌ تمثّلُ كلَّ إنسانٍ اغترَّ بجمالِهِ وصِباه، فَصارَ عَبدًا لِمُتعةِ الجسد. مَنْ يقرأ سيرة هذه القدّيسة قد يتعثَّر مِنْ أنَّ الكنيسة قدَّسَتْها إذ تَمادَتْ في فُجورها، لدرجة أنّها قالت في توبتها أنّها كانت “تُدنّس الأرضَ والهواءَ بكَلِماتِها” حين كانت مَقُودَةً مِن انغماسِها في حُبِّ ذاتها بِطَلَبِ اللَّذَّة. لكنَّ رحمة الله تفوق كلّ حدود تصوُّرنا لأنّه أحبّنا حتَّى الموت … موت الصَّليب …
* * *
كيف اصطادها الله إلى التّوبة؟!…
الله يتعاطى معنا كأشخاصٍ ويهتمُّ بأمرِ كُلٍّ مِنّا مِنْ أصغرِ التّفاصيل إلى أكبرِها، ويَعرفُ مُيولَنا ونَوايانا وأفكارَنا وما سَتَؤولُ بِنا إليه. يَحترمُ اللهُ حُرّيتَنا وهو حاضِرٌ في حياتِنا لِكَيْما يصطادَنا إلى الخَلاص مِنْ خلال ما نُوقِعْ به أنفسَنا مِنَ الشُّرور لأنّه هو الوَحيد القادر أن “يُشرِقَ مِنَ الظُّلمةِ نورٌ”.
عالمنا اليوم، يضع شبابنا أمام السّقوط الكبير الّذي وقعت فيه مريم المَصريّة ومنذ عمر الطّفولة، كما حدث معها تمامًا، وذلك بسبب سهولة الحصول على المعلومات المختلفة من خلال الإنترنت المُتوفّر للكبير والصّغير على هاتفه الجوّال. من أين أتى الشّبق ليستحوذ على مريم المصريّة، لا نعلم، الأسباب مُتعدِّدَة ومُتشعّبَة، لكنّنا نعلم اليوم من أين قد يُستعبَد أبناؤنا لوحش اللّذة البدنيّة المعروض عليهم. لذا، يجب على الأهل اوَّلًا أن ينتبهوا إلى أنفسهم وإلى أولادهم لئلّا يخسروهم ويخسروا ذواتهم في لعبة تسلُّط عالم الاستهلاك على الإنسان في عصرنا هذا. الشَّبَق وهو رَغْبَةٌ جِنْسِيَّةٌ قَوِيَّةٌ للجِماعِ وحالة النّزوع إلى الجنس بصفة عامّة، أو كلّ المشاعر والأحاسيس والتّصوّرات الّتي تمكِّن من ممارسته أو التّحدّث عنه، خطر يُداهِم كلّ إنسان لا سيّما في زمننا هذا …
* * *
مريم المصريّة وصلت إلى أسفل دَرَكات الانحطاط الأخلاقيّ، وللأسف هذا يجده اليوم الإنسان على مواقع إلكترونيّة بسهولة حيث يُفسَد الإنسان وتُشوَّه حقيقته. لم تستطع مريم أن تتوب لو لم تُصدَم بحقيقة أنّها لا تستطيع أن تفعل ما يحلو لها وأن كلّ شيء مفتوح أمامها لأنّها تملك سلطة إغراء الآخَر والتّسلُّط عليه بالشّهوة. الرَّبّ أدَّبَها بصمت عزوفه عن السّماح لها بدخول بيته والسّجود لصليبه المُقدَّس. واصطادتها والدة الإله بحنانها الأموميّ الظّاهِر في انشدادها نحو ابنها المَحمول على ذراعَيْها نحو الأبديّة في مشهد حنوّ على كلّ البشريّة في الطّفل الإله-الإنسان وبه …
* * *
التّوبة، كما تكشَّفَت لنا في مريم المصريّة، هي إدراك كلّيّ لواقع الحقارة والدّناءة الكيانيّة من خلال الألم اللّانهائيّ المتولِّد عن الخطيئة المُسْتَلَذَّة بمذاقها الأوّل، والمُمَرْمِرَة للقلب بسبب الفراغ المتزايد مع اضطراد التّعلُّق باللّذة في مذاقها الأخير. حالةٌ جحيميَّة من التَّلَظِّي الدّاخليّ بنار جوع اللَّذة الّذي لا يَشبَع طلبًا لتعزية للّنفس يرومها الإنسان في الجسد فلا يأخذ منها إلَّا اجتيافًا (نَتَنًا وفَسَادًا) وألمًا متزايدًا بسبب ازدياد الرّغبة. هذا ما يُسمَّى بالهوى النّاتج عن العبوديّة لخطيئة من الخطايا. لكن، المَصدر لهوى الشَّبَق هو الكبرياء والعُجْب (كِبْر وزهو وغرور)، وبالتّالي لا خلاص للإنسان منه إلّا بضربة كبيرة تسلخه عنه سلخًا … وهذا ما حدث مع مريم المصريّة الّتي استجابت للدّواء المُرّ ولم تعد تنظر إلى الخلف لأنّها لو التفتت التفاتة واحدة إلى الوراء لصارت حالتها أشقى من قبل بما لا يُقاس. وكأنّ التّوبة العميقة الحقيقيّة من هذا الهوى لا تتمّ إلّا دُفعةً واحدة بقوّة ألم الكشف بنور الله لحقيقة الإنسان، وبفيض التّعزية الإلهيّة المُشجِّعة على سلوك درب التّوبة واحتمال أوجاع التّطهُّر المُستَمِرّ بالإرادة والنّعمة …
ألا وهبنا الرَّبّ أن تكون لدينا شجاعة مواجهة حقيقة أهوائنا والثّبات في التَّطهُّر بطاعة الكلمة والنّعمة لنستحقّ استقبال الرَّبّ يسوع ببراءة الأطفال في الشّعانين …
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما