نشرة كنيستي- أحد الأجداد القدّيسين- العدد 50
15 كانون الأوّل 2024
كلمة الرّاعي
مُشتَهى الأمَم
“لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: هِيَ مَرَّةٌ، بَعْدَ قَلِيلٍ، فَأُزَلْزِلُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَالْيَابِسَةَ،
وَأُزَلْزِلُ كُلَّ الأُمَمِ. وَيَأْتِي مُشْتَهَى كُلِّ الأُمَمِ، فَأَمْلأُ هذَا الْبَيْتَ مَجْدًا، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ” (حجي 2: 6 و7)
اِعتقد اليهود أنَّ المخلَّص – المسِّيَّا يأتي من نسلهم لأجلهم فقط وليجعلهم يسودون الأمم والعالم، وما زالوا. لكنَّ، الكتاب المقدَّس الَّذي يؤمنون به يقول عكس ذلك. فالمخلِّص هو “مُشتَهى كلّ الأمم” وليس مُشتَهى اليهود فقط، والمسّيّا هو مخلّص لكلِّ العالم وليس لفئةٍ منَ النَّاس (يو 4: 42). ففي هذا الأحد تُذَكِّرنا الكنيسة المقدَّسة بكلّ الَّذين انتظروا خلاص الله والَّذين تَلَقَّوْا وُعودَهُ مِن آدم إلى يسوع المسيح. فظهور الله بالجسد في عالمه لم يكن أمرًا مُفاجِئًا بل كان أمرًا ينتظره اليَهود والأمَم. فإنَّ الله “لَمْ يَتْرُكْ نَفْسَهُ بِلاَ شَاهِدٍ، وَهُوَ يَفْعَلُ خَيْرًا: يُعْطِينَا مِنَ السَّمَاءِ أَمْطَارًا وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً، وَيَمْلأُ قُلُوبَنَا طَعَامًا وَسُرُورًا” (أع 14: 17). وفي هذا الإطار، يقول القدِّيس يوستينوس الفيلسوف: “المسيح هو بِكْرُ الخليقة، وهو كلمةُ الله الَّذي اشترك فيه الجنس البشريّ بأسره. فكلّ مَنْ عاشَ عيشةً تتّفِقُ والكلمة كان مَسيحيًا ولو دُعيَ وثنيًّا، كما جرى بين اليونانيّين أمثال سقراط وهيراقليطس وغيرهما”.
* * *
هذا الأحد تُذَكِّرنا فيه الكنيسة المقدَّسَة بشموليّة عيد ميلاد ربِّنا يسوع المسيح بالجسد من البتول مريم، فهو يأتي لأجل كلّ عالمه هذا العالم الَّذي عرفه بطُرُقٍ مُختلفة. فبعد سقوط الإنسان ووعد الله بالخلاص، كشف الله للآباء والأنبياء في العهد القديم تحقيق الوَعد وتدبير التَّجسُّد والفِداء. النبوؤات تملأ العهد القديم وهي تُخبرُنا عن مَجيء المخَلِّص. الشُّعوب الأخرى أي الأمم الوَثنيَّة، أيضًا، انتظرتْ الإله الحقيقيّ، وما مجيء المجوس مِن بلاد فارس إلّا تأكيدٌ لهذا الأمر، وكذلك نجد فلاسفة متعطِّشين إلى الحكمة والسَّعادة والفرح، وبهذا فقد تكلَّمُوا عن المخلِّص واشتهوه دون أن يُسمّوه أو يعرفوه. وقد أبدع بولس الرَّسول بالرُّوح القدس حين لم يتردّد وسط آريوس باغوس عندما تكلَّم مع شُعَرائِها وفلاسفتها مُستَعِينًا بعبارة مقتبسة من الشَّاعر أبيمينيدس الَّذي نَصَح بإقامة تمثال لإلهٍ مَجهول ليُطبِّقَها على المسيح الإله بِقَوْلِه لهم: “لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ أَيْضًا: لأَنَّنَا أَيْضًا ذُرِّيَّتُهُ” (أع ١٧: ٢٨). ونجد عند فيلسوف من القرن الأوّل قبل الميلاد وهو أثينادوروس عبارات سامية جدًّا كما في قوله: “إنَّ روحًا قدُّوسًا يقوم في أعماقنا. هو مُراقِب وحارِس لأفكارنا الصَّالحة والشِّرّيرة”، وهو نفسه يقول أيضًا في مَكانٍ آخَر: “اِعرَف أنّك إذا لم تجسر أن تطلب شيئًا من الله بحضور كلّ النَّاس فإنّك لم تتحرّر من أهوائك بعد. عِشْ مع البشر كأنّ الله يَراك وتكلّم مع الله كأنّ البشر يَسمَعُونَك”.
* * *
أيُّها الأحِبَّة، الإنسان مَخلُوق على صورَةِ الله ولذلك فهو يَتوقُ إلى خالِقِه بشَكلٍ فطريّ لأنّه يبحث عن نفسه ونفسه لا يمكن أن يجدها خارج الله. لذلك، الصَّلاح من طبيعة الإنسان الأولى، ومهما تشوَّهَتْ هذه الطَّبيعة يبقى فيها أثر لصلاح الله، وهكذا إذا سمع الإنسان لضميره الطَّبيعيّ يَقودُه إلى الخالق لأنّ الجمال جوهر الإنسان وقمّة الجمال الحبّ النّقيّ. في داخله يتوق الإنسان إلى هذا الحبّ وإلى هذا الجمال، وإذا تجاوب مع ذبذبات الرُّوح القدس الَّتي يُرسِلُها الله إلى قلبه فسوف تقوده إلى المسيح-اللُّوغوس، وهذا ما يُخبِرنا عنه القدِّيس يوستينوس الشَّهيد: “المسيح كلمة الله يُنير العقول البشريّة منذ البَدء بزَرْعٍ إلهيٍّ، وأخصبتْ هذه العقول منه عند النَّاس الطَّيِّبين بذورًا (Sperma)، فعَرفتْ بعض الحقائق ولكنّ اهتداءَها لم يكن كاملًا”.
البشريّة ما زالت تنتظر المخلّص، وأصحاب النَّوايا الصَّالِحَة في طلب الله تتحرَّك في قلوبهم وأذهانهم بذرة الكلمة لتثمر فيهم سعيًا إلى معرفة الله الحقّ. أمّا نحن الَّذين عرفنا الكلمة مُتَجَسِّدًا ودخلنا في سِرِّ الوَحدة معه فعلينا واجب البشارة باسمه لأجل خلاص العالم من الشَّرِّ والظُّلم والتَّسلُّط والألم عبر تجسيدنا لحضوره بالمحبّة الفاعلة في أعمال الخير والعَدْل والخدمة والتَّعزية، ليتذوّق العالم حلاوة يسوع ولذّة العيش معه فيطلبه عن معرفة. دورنا كمسيحيّين أن نحمل هذا الرّجاء الَّذي يجذب النّاس ويجعلهم يسألون عن “سِرِّ الرَّجاء الذّي فينا” فيكتشفوا الرَّبَّ ويَطلبُونَه (1 بط 3: 15).
مِنْ هُنا، في أحد الأجداد تذكُر الكنيسة كلُّ الَّذين كانوا قبل الشَّريعة وبعد الشَّريعة، وهذا ما نراه عند لوقا الإنجيليّ في نسب الرّبّ يسوع المسيح إذ يرجع من يوسف لآدم فيشمل المسكونة جمعاء، لتقول لنا أنَّ ميلاد المسيح هو لخلاص العالم أجمع الَّذي كان يشتهي أنْ يَراه ويعرفه…
ومن له أُذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما