نشرة كنيستي- الأحد (18) بعد العنصرة- العدد 43
27 تشرين الأوّل 2024
كلمة الرّاعي
مَحَبَّةُ الأَعْداءِ
” أَنَا أَتوَسَّلُ اللَّهَ بِاسْتِمْرارٍ لِيعْطِينِي مَحَبَّةَ الأَعْداءِ … فِي النَّهارِ واللَّيْلِ أَسْأَلُ الرَّبَّ هَذِهِ الـمَحَبَّةَ.
الرَّبِّ يُعْطيني دَموعًا وَأَنَا أَنوحُ مِنْ أَجْلِ كُلِّ العالَمِ” (القِدّيسُ سِلْوانَ الْآثُوسِيُّ)
نَعيشُ أَيَّامًا صَعْبَةً فِي بِلادِنا والْعالَمِ، حَيْثُ تُحَاصِرُ الحُروبُ اَلْبَشَرَ، وَيَزْدادُ القَتْلُ والْحِقْدُ والشَّرُّ، وَمَعَهُمْ الـمَآسي وَالآلَامُ والْمَوْتُ والْحُزْنُ والْغَضَبُ وَروحُ الِانْتِقامِ… يَعيشُ العالَمُ حالَةَ جُنونِ اَلْعَظْمَةِ، حَيْثُ الأَطْرافُ الـمُتَصَارِعَةُ تَنْطَلِقُ مِنْ كِبْرياءِ الأَنَا وَرَفْضِ الآخَرِ وَتَسْتَخْدِمُ قوَّةَ الأَسْلِحَةِ الفَتَّاكَةِ لِكَيْ تُحَقِّقَ “سَلَامًا” عَلَى دِماءِ الأَبْرياءِ اَلَّذِينَ يَسْقُطُونَ دُونَ ذَنْبٍ بِسَبَبِ تُصارِعِ الجُيوشِ وَالـمُقَاتِلِينَ. هَلْ هَذَا اَلْمَسْرَى لِلْبَشَرِيَّةِ يَجْلِبُ سَلَامًا حَقًّا؟!… إنَّهَا خُدْعَةُ السَّلامِ بِالْقُوَّةِ أَيْ الِاسْتِسْلامِ. الِاسْتِسْلامُ يولِّدُ، أَيْضًا، حِقْدًا دَفِينًا يَتَنَامَى وَيَتَعاظَمُ مَعَ الزَّمَنِ مَا لَمْ يَأْتِ العَدْلُ وَيَسُدِ الحَقُّ !… لَكِنْ، فِي هَذَا العالَمِ، مَا زَالَ إِبْليسَ يَحْكُمُ إِلَّا فِي اَلَّذِينَ غَلَبُوهُ بِالْإِيمَانِ بِإِلَهِ الـمَحَبَّةِ، الإِلَهَ الحَقَّ اَلَّذِي كَشَفَ ذاتُهُ بِيَسوعِ المـَسيحِ ابْنِ اللَّهِ الوَحيدِ الـمُتَجَسِّدِ والْمَوْلودُ مِنْ الدّائِمَةِ اَلْبِتَوْليَةِ مَرْيَمَ فِي “مِلْءِ الزَّمانِ”.
* * *
عَبَثًا يَسْعَى حُكّامُ هَذَا العالَمِ وَأَهْلُهِ إِلَى إِنْسانيَّةٍ أَفْضَلَ، لِأَنَّهُمْ لَا يَسْلُكُونَ طَريقَ الحَقِّ أَوْ الطَّريقَ الوَحيدَ إِلَى الحَقيقَةِ السَّرَمْديَّةِ اَلَّذِي هوَ “مَحَبَّةُ الأَعْداءِ”. كُلُّ مَا نَرَاه مِنْ حُروبٍ وَقَتْلٍ وَدَمارٍ وَشُرورٍ سَبَبُهُ البُعْدُ عَنْ اللَّهِ وَتَأْليهُ البَشَرِ لِأَنْفُسِهِمْ بِسَبَبٍ مِنْ إِمْكَانِيَّاتِهِمِ المادّيَّةِ والتِّكْنولوجيَّةِ والْعَسْكَريَّةِ. يَظُنُّ البَشَرُ أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ آلِهَةً بِقوَّةِ السِّلاحِ… هَذِهِ هِيَ قِمَّةُ الغَباءِ والْكُفْرِ… الـمَوْتُ يَسْتَجْلِبُ الـمَوْتَ، والشَّرُّ يولِّدُ الشَّرَّ، والظُّلْمُ يَنْبُتُ الحِقْدَ والْكَراهيَةَ، والْقَمْعُ يولِّدُ الْاِنْتِقَامَ… هَذَا هوَ واقِعُ البَشَريَّةِ الـمَأْساويِّ أَمْسِ والْيَوْمَ وَإِلَى مَجيءِ الرَّبِّ ليَدينَ العالَمَ… إِنَّهَا دَوّامَةُ الـمَوْتِ تَبْتَلِعُ العالَمَ والْإِنْسانَ… مَا لَمْ يَنْشَأْ أَمْرٌ جَديدٌ يُغَيِّرُ المـَقَايِيسَ وَيَقْلِبُها…
يَقُولُ اَلْجامِعَةُ: “مَا كَانَ فَهُوَ مَا يَكونُ، وَالَّذِي صُنْعَ فَهُوَ اَلَّذِي يُصْنَعُ، فَلَيْسَ تَحْتَ الشَّمْسِ جَديدٌ” (1 : 9)، هَذَا عَلَى الـمُسْتَوَى البَشَريِّ، لَكِنْ فِي تَدْبيرِ اللَّهِ لِخَلاصِ العالِمِ فَقَدْ تَحَقَّقَ أَمْرٌ جَديدٌ لَا سابِقَ لَهُ وَلَا مَثيلَ لَهُ فِي الـمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ أَتَى إِلَيْنَا وَصَارَ إِنْسَانًا وَمَاتَ لِأَجَلِنا لِكَيْ يُخَلِّصَنا مِنْ سُلْطانِ إِبْليسَ اَلَّذِي بِالْخَطِيئَةِ وَمِن عُبوديَّةِ الـمَوْتِ بِغَلَبَتَهُ الـمَوْتَ بِالْقيامَةِ سَاحِقًا أَسْبابُهُ وَمُبيدًا إِيَّاهَا، إِذْ عَلَى الصَّليبِ غَلَبَ الحُبُّ إِلَى الأَبَدِ، وَتَجَلَّتْ وَصيَّةُ الـمَحَبَّةِ بِكَمَالِهَا فِي مَحَبَّةِ الأَعْداءِ…
* * *
أَيُّهَا الأَحِبّاءُ، يُعَلِّمُنَا القِدّيسُ سُلْوانَ الْآثُوسِي، فِي مَحَبَّتِهِ الشُّموليَّةِ، الصَّلاةَ إِلَى الرَّبِّ لِكَيْ يَحْصُلَ كُلُّ البَشَرِ عَلَى نِعْمَةِ مَحَبَّةِ الأَعْداءِ، إِذْ يَرْبُطُ الأَعْداءَ بِنَفْسِهِ فِي صَلاتِهِ قَائِلًا: “أَيُّهَا السَّيِّدُ، عَلَّمَنِي بِروحِكِ القُدُّوسِ أَنْ أَحَبَّ أَعْدَائِي وَأُصَلِّيَّ مِنْ أَجْلِهِمْ بِدُموعِ… يَا رَبَّ، كَمَا صَلَّيْتَ مِنْ أَجْلِ أَعْدَائِكَ، هَكَذَا عَلَّمَنِي أَيْضًا، بِالرُّوحِ القُدْسِ أَنْ أَحَبَّ أَعْدَائِي”.
مَحَبَّةُ الأَعْداءِ مُسْتَحيلَةٌ بِدُونِ النِّعْمَةِ الإِلَهيَّةِ، وَبِهَا فَقَطْ هِيَ مُمْكِنَةٌ وَمُحَقَّقَةٌ، وَاقْتِناؤُها يَعْنِي اقْتِناءَ نِعْمَةِ الرّوحِ القُدْسِ أَيْ تَجْديدِ الطَّبيعَةِ وَتَحَوُّلِها إِلَى خَليقَةٍ جَديدَةٍ فِي المـَسيحِ وَبِهِ. وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِعَيْشِ الْإِيمَانِ بِالْمَسيحِ يَسُوعَ عَبْرَ مَعْرِفَةِ اللّهِ الـمَحَبَّةِ اَلْثَّالوثِ الأَقْدَسِ وَإِتْمامُ مَشِيئَتِهِ عَبْرَ طاعَةِ كَلِمَةِ الـمَسيحِ، أَيْ الوَصيَّةِ الجَديدَةِ اَلَّتِي هِيَ المحَبَّةُ لِلَّهِ، أَوَّلًا، وَلِكُلِّ أَخٍ فِي الإِنْسانيَّةِ وَخَاصَّةً الأَعْداءَ إنطِلاقًا من الوَصِيَّةِ الأُولَى. لَكِنْ، لِعَيْشِ هَذِهِ النِّعْمَةِ لَا بُدَّ لَنَا مِنْ اقْتِناءِ التَّواضُعِ اقْتِداءً بِالْمَسيحِ، لذا عَلَيْنَا أَنْ نَعْرِفَ خَطايانا وَنَنْدَمَ وَنَتوبَ عَنْهَا طَالِبِينَ الرَّحْمَةَ لِأَنْفُسِنَا وَلِلْآخَرِينَ، وَخَاصَّةً لِأَعْدَائِنَا بَدَلًا مِنَ الحُكْمِ عَلَيْهِمْ. هَذَا يَسْتَتْبِعُ أَنْ نَغْصِبَ أَنْفُسَنا عَلَى الصَّلاةِ لِأَعْدَائِنَا، كَمَا يَقُولُ القِدِّيسُ سُلْوانَ: “أَرْجُوكُمْ أَنْ تُجَرِّبوا، أُجْبُروا قَلْبَكُمْ فِي البِدايَةِ عَلَى مَحَبَّةِ أَعْدائِكُمْ”، وَمِن ثَمَّ إِذْ يَرَى الرَّبُّ نَوَايَانَا الحَسَنَةَ يُساعِدُنا فِي كُلِّ شَيْءٍ… حَتَّى نَصِلَ لِنَصِيرَ مِثْلَ الـمَسيحِ لَا أَعْداءَ لَنَا، أَيْ أَنَّنَا لَا نَرْفُضُ أَحَدًا بَلْ نُحِبُّ الجَميعَ دُونَ قُيودٍ أَوْ شُروطٍ، فَفِي النِّهَايَةِ “اللَّهُ مَحَبَّةٌ والرُّوحُ القُدُسُ فِي القِدِّيسِينَ هوَ مَحَبَّة. كَوْنُهُمْ يَسْكُنُونَ فِي الرُّوحِ القُدْسِ، يَرَى اَلْقَدِّيسونَ الـمَحَبَّةَ وَيَضُمُّونَها أَيْضًا فِي مَحَبَّتِهِمْ …
هَذَا هوَ سَعَيُنَا فِي المـَسيحِ لِنَصيرَ آلِهَةً عَلَى صورَتِهِ وَمِثالِهِ بِنِعْمَتِهِ… والطَّريقُ هوَ محبَّةُ الأعداءِ…
وَمِن اسْتَطاعَ أَنْ يَقْبَلَ فَلْيَقْبَلْ!…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما