ميلاد الحياة- الوسيلة- ٣٠ تشرين الثّاني ۲٠١٨
المتروبوليت أنطونيوس (الصوري)- متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما للرّوم الأرثوذكس
ميلاد الحياة
الأحداث في التاريخ متكرِّرة، “مَا كَانَ فَهُوَ مَا يَكُونُ، وَالَّذِي صُنِعَ فَهُوَ الَّذِي يُصْنَعُ، فَلَيْسَ تَحْتَ الشَّمْسِ جَدِيدٌ” (سفر الجامعة 1: 9). حدث واحد صار في كلّ الوجود لن يتكرَّر إذ “لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ…” (رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية 4: 4 -5).
سرّ الميلاد مرتبط بسرّ وحدانيّة الله في الجوهر وتثليث الأقانيم. هذا لم يكن مكشوفًا قبل التجسُّد الإلهي ولم يُستَعلن قبل الميلاد. الله-المحبّة سرّ فوق إدراك كلّ مخلوق. لا يستطيع الإنسان أن يدرك سرّ الله بعقله، هذا غير ممكن، الله غير مُدرَك وغير موصوف وغير محدود ومع ذلك يكشف لنا ذاته في صفاته غير المحدودة التي تعبِّر عنها “المحبّة” جملة كون المحبة لا يمكن تحديدها أي حصرها في قوالب جامدة لأنها دائمًا متجدِّدة وممتدّة في عمقها وجوهرها خارج كلّ محدوديّة ومنها ينبع كلّ صلاح…
الله كشف لنا حبّه لخليقته لمّا أتاها ليجدِّدها ويحرِّرها بالحبّ الإلهيّ من مواتيّتها وعبوديّتها للموت، وللموت فينا وجوه ووجوه لا يستطيع كلّ بشر فهمها ومعرفة حقيقتها إلّا من عاشوا بروح الله في الطّاعة للوصيّة للتنقية في القلب والاستنارة بنور محبّة الله في تجلّي الإنسان على صورة يسوع المسيح الَّذي “إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً للهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. لِذلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ …” (رسالة بولس الرسول إلى أهل فيليبي 2: 6 – 11).
سرّ الميلاد هو سرّ الحبّ الإلهيّ، سرّ الحياة الجديدة المتجدِّدة سرمديًّا بروح الرب القدو س في الَّذين يتقبّلون كشف الله للإنسان أنّه هو غاية حبّ الله والحب سُكنى في الحبيب لمن أفرغ ذاته من حبّ الأنا ليصير هو مُستَقَرُّ العليّ …
ميلاد الرب يسوع المسيح المولود من الآب قبل كلّ الدهور من الله الآب بدون أمّ والمولود من مريم العذراء بتظليل الروح القدس بدون أب في “ملء الزمان” (رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية 4: 4) هو خلق جديد للكون في يسوع المسيح وبه لأنّه هو “نموذج” الإنسان الحقّ وغاية الإنسان في وجوده.
مع ميلاد المسيح أشرق النور والحق في العالم لأنّه لم يعد من شيء مخفيّ على الإنسان إذ استُعلِن الإنسان الحقيقيّ. لذلك، صارت البشريّة تُقاس وتعرف بمواجهتها ومقارنتها مع الإله-الإنسان يسوع المسيح لأنّه هو أظهر لنا من نحن ومن يجب أن نكون ومن سنصير إذا سلكنا بموجب وصاياه واقتبلنا روح الله في قلوبنا بالطاعة للعليّ.
الإنسانيّة الجديدة ابتدأت في المسيح وتكمَّلَت فيه، لم يعد من شيء يُضاف الكلّ صار فيه كامِلًا. الإنسان هو الحبّ لأنّ الله حبّ وكلّ ما عدا ذلك محاولات بحث عن ذاتنا لا بدّ أن تؤول في النهاية إلى الحياة في الحبّ الَّذي من العلى حيث تتحقَق إنسانيّتنا ووجودنا وغاية حياتنا.
فلنستقبل الحياة الجديدة في ميلاد الرب يسوع المسيح لأننا لها وُجِدنا للحبّ والفرح والسلام والوحدة …
+ انطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس