نشرة كنيستي- الأحد الثَّاني من الصَّوْم (القدِّيس غريغوريوس بالاماس) – العدد 11
الأحد 16 آذار 2025
كلمة الرّاعي
معاينة الله في نوره السَّرمَديّ
حين تَجلّى الرَّبُّ على طور ثابور أمام تلاميذه الثَّلاثة كشف لهم ألوهِيَّتَه مِنْ خلال اختبارهم للنُّور الإلهيّ غير المخلوق الصَّادِر عن الألوهة في أقنوم الكلمة المتَجَسِّد. هذه الخبرة نقرأ عنها أيضًا حين عايَنَ موسى مجد الله في سيناء ونزل من الجبل ووجهه مُشِعٌّ بالنُّور (راجع خروج 33 و34). آباء الكنيسة يعلِّمون أنَّ هذا النُّور هو إشعاع طبيعيّ للألوهة وتعبيرٌ عن سرّ الجوهر الإلهيّ. في حين أنّ الجوهر الإلهيّ غير مُدرَك ولا يمكن معاينته، إلَّا أنّ النُّور الصَّادر عن الجوهر الإلهيّ من خلال الأقنوم يمكن الاشتراك فيه أي الاتّحاد به واقتناؤه، بمعنى أنّه يصير ساكنًا الإنسان بنعمةٍ من الله وليس بحسب الطَّبيعة، أي أنّ النُّور الإلهيّ غير المخلوق يسكن في الإنسان كقوّةٍ صادرة عن الطَّبيعة الإلهيّة وليس أنّ الإنسان يصير مشاركًا لله طبيعته بحسب الجوهر.
يقول القدِّيس صفروني الآثوسيّ (سخاروف) في هذا المجال، بأنّ النُّور غير المخلوق يحمل آثارًا لا توصَف ولا تُحَدَّد، وفيه تحلُّ الأبديّة وتُوجَد “رقَّة الحبّ” الَّتي لا توصَف، و “فيه” ترى وتعاين روحنا آفاقًا لا حَدَّ لها. روح الإنسان تكتشف هذا “الجديد” تدريجيًّا، وليس دفعةً واحدة… (كتاب “معاينة الله كما هو”، الفصل 12 “في النُّور غير المخلوق”). هذه الخبرة تُعطى لمن يطلبها والله حرّ أن يُعطيها لمن يشاء، ولكنَّ الطَّريق إليها يَمُرُّ بالصَّلاة والصَّوْم والتَّوْبَة وأعمال المحبَّة… هي هِبَة الله لأنقياء القلوب والكيان…
* * *
القدِّيس غريغوريوس بالاماس، الَّذي نُعَيِّد له في هذا الأحد الثَّاني من الصَّوْم الكبير، يركّز في تعليمه على النُّور الإلهيّ غير المخلوق. فهو يُوضِح أنَّ النُّور غير المخلوق هو النِّعمة الإلهيَّة الَّتي تُقدِّس المؤمنين وتمنحهم القدرة على مُعاينة الله. هذا النُّور هو أزليّ وإلهيّ، وهو ليس جزءًا من العالم المخلوق، بل هو تعبير عن حضور الله ذاته. ويؤكِّد قدّيسُنا أنّ معرفة الله ليست نتاج العمليّات العقليَّة أو الفلسفيَّة، بل هي عَطِيَّة من النِّعمة الإلهيّة تُمنَح للَّذين طهَّروا قلوبهم. تعليمه هذا جاء في رَدَّه على الفيلسوف برلعام الَّذي اعتبر أنَّ الفلاسفة أعلى من الأنبياء وأنَّ اللَّاهُوت هو نِتاج العمليَّات العقليَّة. في هذا الخَطّ، يعتبر القدِّيس صفروني الآثوسيّ “أنّ صلاة التَّوبة العميقة بإمكانها أنْ تصل بالإنسان إلى حالة يذوق معها الحرِّيَّة في ”روح الحَقّ“: ”والحَقّ يحرِّرُكم“ (يو ٨ : ٣٢). إنَّ هذه الحرِّيَّة المقدَّسة غير معروفة، ويا للأسف، لغالبيَّة البشر. إنَّ أولى ظواهر التَّحرُّر هي فقدان شهوة السَّيطرة على أيٍّ كان. والدَّرجة التَّالية تتمثَّل في التَّخلُّص، داخليًّا، من سيطرة الآخَرين علينا”. معاينة النُّور الإلهيّ غير المخلوق هي كمال الحرِّيَّة لأنّ الإنسان يكون حينها دخل في المدار الإلهيّ وخرج من المدارات المتعلِّقَة بالزَّمان والمكان والبشر وكلّ ما يرتبط بها، لأنَّ الوَحدة مع الله تُحرِّر الإنسان من كلِّ تعلّقٍ وتجعله في آنٍ معًا متَّحِدًا بالله وبالخليقة كلّها في سِرِّ الحُبِّ اللَّامحدود…
* * *
أيُّها الأحبّاء، الله خلقنا لنُشارِكه حياته ومجده، وهذه الخبرة كُشفَت لنا في ما ورد عنها في الكتاب المقدَّس وفي حياة القدِّيسين. قد يراها البعض مختصّة بالنُّسَّاك والرُّهبان، وهذا صحيح من جهةٍ أولى، كون الطَّريق المؤدّي إلى المعاينة الإلهيّة لا بُدَّ أن يكون عبر التَّطَهُّر والتَّنقية للقلب بالتَّوبة في الدُّموع والصُّوْم والتَّقشُّف، ولكن، من جهةٍ أخرى، يوجد الكثيرون من المؤمنين الأتقياء والسَّالِكين في الاستقامة وروح الاتِّضاع والتَّوْبة والله حُرٌّ أن يكشف نفسه لمن يشاء. في كلّ الأحوال، خبرة معاينة الله في النُّور الإلهيّ غير المخلوق هي تذوُّق مُسْبَق لحياة الدَّهر الآتي وملكوت السَّماوات، وهي تاليًا صورة عن الحياة الأبديَّة. في هذا الإطار يقول القدِّيس سمعان اللَّاهوتيّ الجديد: “الله هو نور وهو يمزج ضياءه بالَّذين ثبتوا واتّحدوا به بحسب قياس كمالهم… الإنسان يجمع ذاته ويوّحدها بالله روحيًّا وجسديًّا لأنَّ نفسه لا تنفصل عن روحه ولا جسده عن نفسه. الله يدخل في شركةٍ كلّيّةٍ مع الإنسان الواحد كلّه الَّذي هو إلهٌ بالطَّبيعة، يتحدَّث مع الَّذين صاروا آلهةٍ بالنِّعمَة… الرُّوح القدس يُصبح داخلهم كما أخبرتهم الأسفار المقدَّسة عن ملكوت الله”. ولكي نفهم ما هي هذه الخبرة فلنسمع الحوار الَّذي دار بين موتوفيلوف والقدِّيس سيرافيم ساروفسكي حين أعطاه القدِّيس أنْ يشاركه في خبرة الدُّخول في النُّور غير المخلوق:
تصوّر أنَّكَ رَفَعْتَ عيْنَيْكَ فجأةً إلى قرص الشَّمس الوَهّاج في عِزِّ الظُّهر لتُحَدِّق في وجه إنسانٍ داخِل هذا القرص وهو يتحدّث إليك. كنت ألحظ تحرّك شفتيه وملامح عينيه وأسمع صوته وأحسّ بيديه وهو ماسك كتفي، ولكنّني لم أستطع أن أرى يديه ولا باقي جسمه، فالكلّ غاب عن بَصَري ماعَدا النُّور المتوهِّج الَّذي يُحيط به والَّذي يَشعُّ منه فيسقط على الثَّلج الَّذي يغطّي الأرض مِن حوله ويضيء قطع الثَّلج المتساقط علينا مِن السَّماء.
القدّيس: بماذا تشعر؟
موتوفيلوف: بسعادةٍ تَفوقُ الوَصف (…) أشعر بهدوءٍ وسَكينةٍ وسَلام في نفسي لا أستطيع أن أجد كلمةً تعبّر عنها (…) بسرورٍ لا حَدَّ له داخل قلبي (…) إنّني أشعر بعذوبةٍ لا توصف (…) أشعرُ بحرارةٍ لا توصَف!! (…)
القدّيس: (…) إنَّ نعمة الرُّوح كائنة باستمرار فينا لأنَّ الرَّبّ يقول: ها ملكوت الله داخلكم. نعمة الرُّوح القدس هي الَّتي تُنيرُنا وتُدفئنا وتملأ الهواء المحيط بنا عِطْرًا، وتَمْلأ قلبنا فرحًا عظيمًا. إنَّ الحالة الَّتي نحن فيها الآن هي الَّتي قال عنها الرَّسول “إنَّ ملكوت الله ليس أكلًا وشرابًا بل هو بِرٌّ وسلامٌ وفَرَحٌ بالرُّوح القدس” إنَّ إيماننا لا يَستند إلى الآراء الحكيمة المقنعة بل إلى بُرْهان الرُّوح وقُوَّته. نحن مِن هؤلاء الَّذين قال الرَّبّ عنهم: “إنَّ قَوْمًا من الَّذين ههنا لا يذوقون الموت قبل أنْ يَرَوا ملكوت الله آتيًا بقُوَّة”.
أيُّها الأحبّاء، الرَّبُّ يُنصتُ لكِلا الرَّاهب والإنسان الَّذي في العالم لو كان كلاهما مؤمِنًا (القدِّيس سمعان اللَّاهوتيّ الحديث)، باب الأبديّة مَفتوح للجميع في المسيح فهل مِنْ فاهِمٍ طالبٍ لله؟!…
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما