نشرة كنيستي- أحد مرفع الجبن (الغفران)- العدد 11
17 آذار 2024
كلمة الرّاعي
مسيرة الصَّوْم
“فَلْنَدَعْ عَنَّا أَعْمَالَ الظُّلْمَةِ وَنَلْبَسَ أَسْلِحَةَ النُّورِ” (رو 12: 13)
ها نحن نَلِجُ ميدان الصَّوْم وحلبة الصِّراع الرُّوحيّ الدّاخليَّة. معركتنا في القلب، و “مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ” (أف 6: 12). أمامنا مرحلة جِدّ وتعب، جهاد ونَصَب لكي نتطهَّر ونتقدَّس. غاية صومنا قداستنا، وقداستنا تأتي من طهارة قلوبنا، وطهارة قلوبنا نقتنيها بنعمة الله في توبتنا الحثيثة والعميقة الّتي بالدّموع…
لا نتلهَّينَّ، يا أحبّة، بصوم الأطعمة فنقضي أوقاتنا نفكِّر ماذا نأكل وماذا نشرب، فلنحاول أن يكون مأكولنا ومشروبنا بسيطًا، وبالمقابل فلنُشدِّد على صوم الفكر والقلب عن الدّينونة والحقد والكره والكبرياء والأنانيَّة ورفض الآخَر لأنّ هذه هي مصدر تجاربنا الرُّوحِيَّة والنَّفسِيَّة والجسديَّة والشَّهوانيَّة. إنْ قطعنا هذه تصير مشاغل الأكل والشِّرب قليلة ومع الصّلاة والقراءة الرُّوحيَّة يبدأ الفكر والقلب يمتلآن سلامًا والجسد يهدأ.
الصَّوْم الكبير المقدَّس هو فرصة مهمّة جدًّا في حياتنا الرُّوحيَّة لأنّه زمن مبارك من كلّ جوانبه، إذ ترتِّب فيه الكنيسة الصَّلوات المختصّة الخشوعيَّة وتعود بنا إلى مسيرة الله مع الإنسان منذ البدء لتصل بنا إلى زمن الخلاص وفرح القيامة.
* * *
الإنسان نفسٌ وجسد، حين يهدأ الجسد تتحرَّك الرُّوح وحين يتحرَّك الجسد تَخْبُو الرُّوح، “لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُونَ” (غل 5: 17). مسيرة الصَّوْم هي جهاد لكي نعود إلى التّوازن والانسجام والوَحدة بين الجسد والرُّوح بواسطة النّعمة الإلهيَّة. درب الصَّوْم هو العودة إلى الذّات والدُّخول إلى القلب من خلال الهَدْأة والصَّلاة والتَّأمُّل، “لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ: ‘بِالرُّجُوعِ وَالسُّكُونِ تَخْلُصُونَ. بِالْهُدُوءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ قُوَّتُكُمْ’. فَلَمْ تشاؤوا” (إش 30: 15).
على الإنسان أن يُحدِّد أهدافه ويعرف طريقه لكي يكون لصومه منفعة وثمرة. هذه فترة مناسبة لنا لكي نهدأ، نخفِّف انشغالاتنا ونتفرَّغ أكثر إلى الصّلاة والتَّوبة، إلى فحص الضَّمير مِنْ خلال القدِّيسين وحياتهم وتعاليمهم، وإلى الدُّخول إلى أعماق نفوسنا عبر التَّأمُّل في الكلمة الإلهيَّة (الكتاب المقدَّس) وتخصيص وقت للصَّلاة القلبيَّة: “ربّي يسوع المسيح ارحمني” …
الشِّرّير لن يتركنا، ولن يجعل صومنا سهلًا، سوف نُجرَّب بأمور كثيرة مثل روح التَّناقض مع الآخَرين، النَّميمة، روح الدَّينونة، الشَّوْق إلى المآكل، الشَّهوات الجسديَّة، الخوف والاضطراب بسبب الأحوال الرَّاهنة، إلخ. لكن علينا أن نبقى ثابتين في صلاتنا وصومنا وحفظ حواسِّنا وأفكارنا. كيف نستطيع فعل هذا كلّه؟ حين تكون عيوننا إلى قلوبنا وخطايانا وليس إلى عيوب الآخَرين وزلاّتهم…
* * *
أيُّها الأحبَّاء، ها زمن الرّبيع الرّوحيّ يأتي إلينا فهل نأتي نحن إليه؟!… لا تزهر النّفوس ما لم تُنقَّى من الشَّوائب الرُّوحيَّة وما لم تُفلَح القلوب لنقب الأرض وتجديدها وإدخال الرُّوح فيها. العمليَّة موجعة وشافية، محزنة ومفرحة، متعبة ومريحة… علينا أن نحرِّك أنفسنا أي أن نخرج من أنفسنا ومن أفكارنا ومن عاداتنا وروتيننا: “لِذلِكَ اخْرُجُوا مِنْ وَسْطِهِمْ وَاعْتَزِلُوا، يَقُولُ الرَّبُّ. وَلاَ تَمَسُّوا نَجِسًا فَأَقْبَلَكُمْ، وَأَكُونَ لَكُمْ أَبًا، وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي بَنِينَ وَبَنَاتٍ، يَقُولُ الرَّبُّ، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ” (2 كو 6: 17 – 18). أن نعتزل يعني أن ندخل إلى الصَّحراء بعيدًا عن العالم المحيط بنا، أن نحيا حياة بسيطة ونبتعد عن كلّ الملهيات لنخصِّص وقتها لبنيان نفوسنا وتوطيد سلامنا من خلال خبرة الصَّلاة المكثّفة الشَّخصيّة والقراءات الرُّوحيَّة.
لا يفقه أحد معنى خبرة النِّعْمَة إن لم يختبرها، وليختبرها الإنسان عليه أن يسلك الطّريق المؤدّي إلى اقتنائها، وهذا الطّريق يبدأ بالغفران والاستغفار بالتَّسامح مع الآخَرين والمسامحة، وهذا مصدره روح التّوبة أي معرفة الذّات ومعرفة خطايانا الشَّخصيّة وليس خطايا الآخَرين وتوبتنا عن خطايانا وليس تبريرها على حساب الآخَرين.
كثيرون، ربّما، لن يستطيعوا أن يسلكوا درب التّوبة لأنّهم لا يريدون كونهم لا يعرفون خطاياهم لأنّ مقاييسهم للخطيئة ذاتيَّة عالميَّة وليست روحيَّة كتابيّة آبائيَّة. من هنا أهمّيّة عِشْرَة الآباء في تعاليمهم وخبراتهم لكي نتعلّم منهم كيف لنا أن نعيش إيماننا المسيحيّ الأرثوذكسيّ باستقامة قلب. الاستقامة الدَّاخليَّة أي الشَّفافيَّة مع الذّات في تقويم أفكارها وأقوالها وأعمالها بناء على كلمة الرّبّ هي الأساس لسلوك درب الصَّوْم الحقيقيّ الَّذي في نهايته نترجّى الحياة الجديدة واختبار فرح القيامة بتجديد أذهاننا وقلوبنا وحياتنا وعلاقتنا مع الآخَرين والخليقة والوجود…
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما