نشرة كنيستي- أحد السُّجود للصَّليب المقدَّس- العدد 13
27 آذار 2022
كلمة الرَّاعي
ما بين البشارة-التّجسُّد والسُّجود للصّليب المقدَّس
الزّمن يتَّخذ معناه في محتواه ومآله. أزمنة البشر، بعامّة، معظمها تعب وشقاء (راجع مز 89 (90): 10). ما قيمة حياة الإنسان إن لم يحقِّق ما وُجِدَ لأجله، إن لم يقتن الفرح الأبديّ والخلود؟!…
خسر الإنسان بعصيانه الله، أي بعبادته لذاته، خسر مصدر حياته الأبديّة، لأجل ماذا؟!… لأنّه صدَّق كذبة إبليس بأنّه قائم في ذاته وأنّ ما ينقصه ليصير مثل الله هو أن يعرف الخير والشّرّ (راجع تك 3: 1—5). مع ذلك، لم ينكر الرّبّ خليقته ويطردها من محبّته، بل وعد سريعًا أنّ نسل المرأة سيسحق رأس الحيَّة (راجع تك 3: 15).
خلال كلّ تاريخ الله مع البشريّة، كان يحضِّر ويهيِّئ مجيء ابنه من البتول القدّيسة مريم، بحسب ما تنبَّأ إشعياء حين قال: ”يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ “عِمَّانُوئِيلَ“ (إش 7: 14).
في عيد بشارة والدة الإله تمّ تحقيق هذا الوعد وحضر الله بيننا ليسكن معنا وفينا…
* * *
حمل الله المذبوح منذ إنشاء العالم، هو نفسه ابن الله الوحيد المولود من الآب بغير أمّ ومن البتول بدون أب. هو الكائن والَّذي كان والَّذي يكون، هذا الخالق يتجسَّد، أي يتَّخذ جسدًا أي يصير إنسانًا بما للإنسان من صفات أي روح ونفس وجسد، وبما للإنسانيّة من قدرات وإرادة وأفعال صادرة عن المشيئة الإنسانيّة الطّبيعيّة. هو صار إنسانًا ليؤلِّهنا أي ليهبنا حياته وذاته بنعمته الإلهيّة الّتي فيها نشارك الله قواه غير المخلوقة.
التّجسُّد فتح للإنسان باب الفردوس المغلق وأعطاه أن يصير ابن الله ووراثًا لملكه الأبديّ. هذا حقّقه يسوع المسيح، إذ كابن للإنسان وبما أنّه ابن الله الوحيد أَتْحَدَ في أقنومه الإلهيّ الطَّبيعتَين الإلهيّة والبشريّة دون أن تذوب الطَّبيعة البشريّة في الإلهيّة أو تختفي ودون أن تنقسم بإرادتها الحرَّة الطّبيعيَّة عن المشيئة الإلهيَّة. المسيح كإنسان أخضع ذاته لله بالكلِّيَّة من خلال إخضاع مشيئته البشريّة للمشيئة الإلهيَّة بالكامِل، وهكذا كأقنوم إلهيّ إنسانيّ كان له المشيئة الواحدة الَّتي للألوهة وللطَّبيعة البشريّة.
هذا كلّه معناه أنّ الإنسان، في المسيح، صار قادرًا على أن يطيع الله بالكليّة إذا ما أخضع مشيئته الحرَّة طوعًا للمشيئة الإلهيَّة عبر اختياره طاعة وصيّة الرّبّ، والنِّعمة الإلهيَّة تعينه وتكمِّل جهاده فترفعه بالتَّنقية من معرفة إلى معرفة ليصير أقرب إلى المسيح الَّذي هو الإنسان الكامل على صورة الله ومثاله.
* * *
لا ينفصل التّجسُّد الإلهيّ عن الصَّليب لأنَّ عمل الله واحد لا ينقسم إذ غايته خلاص الإنسان، فالتّجسُّد هو سرّ تجلِّي الحبّ الإلهيّ بالاتّضاع الكامل والإخلاء الكامل للذّات، إذ من هو في الآب ومولود منه قبل كلّ الدّهور يصير في البتول في ملء الزّمان ويولد منها، والممجَّد مع الآب ومنه يحجب ألوهيّته ويصير طفلًا في حشا فتاة بتول، والكلّيّ القدرة يصير كمولود في أحشاء مريم وكطفل رضيع منها كمن لا حول له ولا قوّة… هذه الحقائق عاشها يسوع أيضًا على الصّليب إذ مَن هو الكائن يقبل أن يصير خاضعًا للموت على الصّليب، والَّذي السّماء عرشه جعل الصّليب له كرسيًّا، والضّابط الكلّ يقبل أن يضبط من البشر ويصلب ويهان…
كلّ هذا التّنازل الإلهيّ تمجَّد الله فيه، إذ بتواضعه ارتفع وبضعفه غلب وبموته أحيا وبدفنه دفن الموت وبقيامته أقام الإنسان كلّه…
أن نشترك في سرّ التّجسُّد هو أن نتّضع لكي نكون طينًا طريًّا في يد الله عبر طاعتنا لوصاياه لكي يصنع منّا ما يريد أي لكي يجعلِنا له أبناء بابنه في نعمة روحه القدُّوس…
ومن يتَّضع ويتخشِّع أمام الرّبّ يُستجاب له…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما