نشرة كنيستي- الأحد (16) بعد العنصرة- العدد 39
24 أيلول 2023
كلمة الرّاعي
”ليسَ لكم آباءٌ كثيرون“
(1كورنثوس 4: 15)
لا يستطيع أن يكون أبًا بالرّوح إلّا من تنقَّى بالرّوح، ولا تتنقّى الرّوح إلّا بانسلاخ الإنسان عن العالم أي بالموت عن الإنسان العتيق السّاقِط …
للنّعمة الإلهيّة ثمن يجب على الإنسان أن يدفعه لاقتنائها. ليس أنّ الإنسان قادر أن يقدِّم شيئًا مساوِيًا للعطيّة الإلهيّة، بل المقصود أنّ الإنسان لا يمكنه أن ينال القوّة الإلهيّة ما لم يجاهد حتَّى الموت عن نفسه، ومع هذا فليس ما يصنعه موازيًا للنّعمة لأنّ الهبّة لا تُقدَّر إذ ما يناله الشّخص الطّالب الرّبَّ هو الرّبُّ نفسه …
* * *
الرّسول في الجوهر هو من ترك كلّ شيء لأجل المسيح والبشارة، ”مَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا“ (مرقس 8: 35). لا شيء له أولويّة، عند الرّسول، على البشارة أي على المسيح. المسيح هو الأوّل والكلّ في الكلّ بالنّسبة إليه. لا أولويّات عند الرّسول سوى نقل بشرى الخلاص أي الغلبة على الموت بالمسيح من خلال موت الخطيئة بطاعة مشيئة الله. لذلك، يحيا الرّسول في الاتّكال الكلّي على الله، ”اطْلُبُوا أَوَّلًا مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ“ (متّى 6: 33)، فيهمل همّ المعيشة والأكل والشّـرب واللّباس والمسكن ورضا الأقرباء والنّاس والرّؤساء … همّه إرضاء معلّمه وحسب … لا يهمّه اضطهاد أو ألم أو فقر أو عريّ أو عطش أو جوع أو كرامة … ما يعني له، فقط، هو أن يكون ملتصقًا بمعلّمه في كلّ شيء … حبُّ المسيح واتّباعه، للرّسول، هما الحياة لأنّ المعلّم قال: ”أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ“ (يوحنّا 14: 6). ولأنّ المُرسَل ليس أفضل من مرسِلِه فلا يكون رسولًا، بالحقيقة، إلّا من كان مستعدًّا لبذل حياته حبًّا بالرَّبّ في سبيل كلّ إنسان إذ ”لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ“ (يوحنّا 15: 13) ليعرف العالم المسيح مخلصًا وفاديًا …
* * *
من لا يتمتّع بهذه الرّوح الرّسوليّة لا يقدر أن يكون أبًا روحيًّا. الأب الرّوحيّ هو من تحوّل وجهه إلى أيقونة يعبر منها النّاس إلى يسوع المسيح، إذ يتحقَّق فيه قول المعمدان: ”يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ (أي المسيح) يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ“ (يوحنّا 3: 30).
كيف يزيد المسيح فينا؟ بإفراغنا لذواتنا أي بإنكار مشيئتنا بإزاء مشيئة المسيح الّتي في الوصيّة الإلهيّة، الّتي تأتينا بالكتب المُقدّسة والصّلوات والقدّيسين وفي كلّ همسة من روح الرَّبّ ينطقها في الخليقة …
الأب الرّوحيّ هو الزّارع الّذي يلقي زرع الكلمة الإلهيّ بالرّوح في قلوب الّذين يضعهم الرَّبّ في طريقه ليجعلهم بعد مخاض طويل في أحشاء محبّة الله الّذي فيه يولدون كُليمات من اللّوغوس الإلهيّ ليصيروا كلمته في هذا العالم …
* * *
أيّها الأحبّاء، بالتّأكيد، ”ولو كانَ لكم ربوةٌ منَ المُرشِدينَ في المسيح، ليسَ لكم آباءٌ كثيرون …“ (1 كو 4: 15). من لم يكن ابنًا، أي من لم يولد من زرع الكلمة، من عاشقٍ للكلمة، يستحيل عليه أن يصير أبًا روحيًّا ولو كان معلِّمًا وواعظًا ومبذولًا في الخدمة. إنّ في هذا الأمر سرٌّ إلهيّ يحوِّل الإنسان إلى مطرح لتجلّي الرَّبّ …
الآباء الرّوحيّون، بالمعنى العميق للكلمة، نادرون لأنّهم تخلّوا عن كلّ تعلُّق بالذّات وبأي أحد أو شيء، وبذا صاروا ولّادين للمسيح في طالبيه بالحَقّ والمستعدِّين لاتّباعه بحمل الصّليب …
ومن استطاع أن يقبل فليقبل …
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما