نشرة كنيستي- أحد النّسبة- العدد 52
24 كانون الأوّل 2023
كلمة الرّاعي
كِتَابُ مِيلاَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ
يا للعجب الغريب! وهل للإله نسب؟! وهل خالق الوجود يدخل الوجود كأحد خلائقه؟! إنّ هذا لأمر عسر القبول على العقل والمنطق. هلا يصير الإله ما لم يكن؟! كيف لنا أن نفهم هذا السّرّ أنّ خالقنا يتّخذ طينتنا وعجنتنا البشريّة؟! ما أعجب أعمالك يا ربّ كلّها بحكمة تفوق كل عقل صنعتَ.
إنّ سلسلة النَّسَب البشريّ لابن الله المتجسِّد من الرُّوح القدس ومن مريم العذراء ليست سوى تأكيد أنّه يأتي ليتمِّم النبوءات الَّتي نطقها الرُّوح القدس بالأنبياء عنه. هو وعد الله لإبراهيم والنَّسل المنتَظَر، وهو من ذرية داود، ومن سلالة موسى وهرون. هو الملك والنبيّ والكاهن الأوحد.
يفتخر النّاس بأنسابهم وبعظماء شعبهم، فهل نَعي نحن أنّنا في المسيح وبه صرنا ”أبناء الله“ بالتّبنّي؟!… هل من أعظم من هذه النّسبة الّتي ننتمي إليها بالمعموديّة المقدَّسة؟! هو اتَّخذ نسَبَنَا ليهبنا نَسَبَهُ. في المسيح لا نعود نأتي من البشرة بل من فوق!…
صحيح أنّ يسوع المسيح من نسل يوسف الخطيب بالجسد، لكنّ يوسف ليس أبوه، فهو مولود من الآب قبل كلّ الدُّهور من دون أمّ، ومولود من العذراء مريم البتول في ملء الزّمان من دون أبٍ. إنسانيّة يسوع اتّخذها من مريم وليس من يوسف، أمّا نسبه البشريّ فقد اتّخذه من يوسف وليس من مريم…
* * *
لائحة النّسب الطّويلة هذه، الّتي تُقرأ في هذا الأحد، تكمن أهمّيتها في كونها تتضمّن ملوكًا وأنبياء، أبرارًا وخطأة، يهودًا وأممًا لتدلّ على أن الطّفل الإلهيّ يأتي لأجل خلاص كلّ البشريّة. ليس المسيح مخلّص شعبٍ بل مخلّص العالم الَّذي يلد المؤمنين به في ملكوت السّماوات.
البشر يخجلون إذا وُجد في سلالتهم مَنْ صَنَع عارًا لأنّهم يعتبرون أنّ عاره يلحق بهم، أمّا المسيح الإله فقد حمل عار البشريّة جمعاء وتحمّل نتيجته على الصّليب ليزيل العار عن الَّذين يؤمنون به إذ ينقّيهم بالولادة الجديدة…
الإله المتجسِّد كشف تواضعه غير المدرك في كلّ ما صنع، وأنّ الله مشارك للبشر في ضعف بشرتهم من خلال ابنه المتجسِّد لكي يهبهم قوّته فيه.
أهميّة نسب يسوع البشريّ لنا هو أنّه يؤكّد لنا مواعيد الله وتحقيق النّبوءات الّتي وردت عنه في العهد القديم ويكشف لنا تحقيقها. من إبراهيم (حوالى 2000 سنة قبل يسوع المسيح) إلى داود (حوالى ألف سنة قبل المسيح) إلى يوسف خطيب مريم كان انتظار الشّعب للمخلّص يتزايد وحاجتهم إليه تتّضح في نفوسهم أكثر فأكثر، كما كان الوعي الرُّوحيّ ينمو في رفض اتبّاع الحضارة الوثنيّة خاصّة في القرون الثّلاثة الأخيرة قبل ميلاد المسيح، حيث كانت تزيد في ضغطها على المؤمن الَّذي لا يريد الابتعاد عن استقامة إيمانه. هذا المنحى نراه في سِفْرَيْ المكابيّين الأوّل والثّاني وفي سيرة الشُّهداء الفتية المكابيّين السّبعة مع أمّهم صولوموني ومعلِّمهم أليعازر. صحيح أنّ سلسلة نسب الرّبّ هي بالجسد ولكنّها أيضًا تعبّر عن مسيرة روحيّة من الانتظار للمخلّص، الَّذي إلى اليوم الكثيرون ما زالوا يبحثون عنه…
* * *
أيّها الأحبّاء، يسوع المسيح هو ”أَصْلُ وَذُرِّيَّةُ دَاوُدَ“ (رؤ 22: 16)، ونحن ذرّيّته في هذا العالم (أع 17: 28). الرّبّ الّذي اختارنا من هذا العالم (يو 15: 19) يريدنا أن نكون حضوره فيه، أن نحمل نوره إليه، أن نبثّ روحه عليه وأن نسكب حنانه على المتعبين والحزانى والمتألِّمين والمُحتاجين والمَرضى والمهمَّشين والمَنسيّين وكلّ مَنْ هو غير موجود بالنِّسبة لأهل العالم…
صحيح أنّ يسوع ارتبط بهذه السِّلسلة الطّويلة من البشر بالجسد، لكنّه جعل هذا الارتباط وسيلة لكي تكون كلّ البشريّة مرتبطة به من خلال جسده الكنيسة.
دورنا، اليوم، كمؤمنين بالطّفل الإلهيّ المولود من البتول أن نبشِّر بخلاصه وننقل سلامه للعالم. نحن امتداده في هذا الكون، هذه هي مسؤوليّتنا لأنّه هو أرادنا أن نكون له شهودًا وكارزين (أع 1: 8).
صار المسيح من ذرّيّتنا ليجعلنا ذرّيّة الله في العالم (أع 17: 29). هذا يعني أنّ علينا أن ندرك أن الله ليس من صنع الإنسان بل الإنسان من صنع الله. الوثنيّة ما زالت حاضرة في زمننا وهي تشتدّ عتاوةً عبر السَّعي لضرب الزّواج والعائلة. إنّ سلاسة يسوع البشريّة بالجسد هي تأكيد على شرف الطّبيعة كما خلقها الله، وعلى حقيقة الإنسان المكتمِّلة في الرَّجل والمرأة معًا، وعلى قدسيّة الحياة المنبثقة من اتّحاد رجل وامرأة.
رسالتنا كمسيحيّين حاملين لصورة الرّبّ يسوع أن نجسِّد تعليمه بالشّهادة لكلمته وحقّه في العالم لكي تزداد ذرّيّته بالولادة من الماء والرُّوح ويكتمل وعده لخلاص العالم بنسل إبراهيم (تك ٢٢ :١٨) على يد مسيح الرّبّ ومحبوبه (حز 34: 22 و23؛ إش 11؛ 2 صم 7: 12)…
ومن له أذنان للسّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما