نشرة كنيستي- الأحد (19) بعد العنصرة- العدد 43
23 تشرين الأوّل 2022
كلمة الرَّاعي
كورة الجرجسيّين
”مَا كَانَ فَهُوَ مَا يَكُونُ، وَالَّذِي صُنِعَ فَهُوَ الَّذِي يُصْنَعُ،
فَلَيْسَ تَحْتَ الشَّمْسِ جَدِيدٌ“ (جا 1: 9)
نعيش اليوم في عالم شبيه بكورة الجرجسيّين أي عالم يخاف الحقّ ويعيش في الظُّلم وفي عبوديَّة الشّياطين. ”رئيس هذا العالم“ (يو 12: 31) تزداد قبضته على البشريّة إذ النّاس أحبّوا ”الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً“ (يو 3: 19).
حين يخضع الإنسان للفكر الشّرّير يصير مجنونًا ويسكن القبور، لأنّه يقضي بنفسه على نفسه كونه يستسلم لأعمال الظّلمة، والمصيبة أنّه يُسَرُّ بذلك إذ يعتقد أنّ السّعادة تأتيه عبر هذا الطّريق.
لا شكّ أن طريق الشّرّ قد يولّد للإنسان رضًا أو يدغدغ كبريائه ويُشبِع أنانيّته ويغذّي شهواته الّتي يعتقدها أنّها هي معنى الحياة، لكنّ الحقيقة هي أنّ الإنسان في كلّ مرّة يطلب فيها هوًى يسقط من إنسانيّته لأنّه يُغَلِّب في ذاته نزعة طبيعته الحيوانيّة المادّيّة على صورة الله الّتي فيه.
* * *
”ما لي ولكَ يا يسوعُ ابْنَ اللهِ العَلِيّ. أطلُبُ إليكَ ألَّا تُعَذِّبَني“ (لو 8: 28). هكذا صرخ الشّياطين الّذين كانوا يسكنون الرّجل حين وصل يسوع إلى كورة الجرجسيّين.
الشّيطان أحضر الرّجل إلى يسوع علّه يترك الكورة، لكنّ يسوع أتى إلى هذه الأرض لأجل هذا الرّجل المعذَّب من الشّياطين. وهنا نرى كذب الشّيطان الَّذي يتّهم يسوع بأنّه يسبِّب عذابًا بينما الحقيقة هي أنّ الشّياطين كانت تعذّب هذا الرّجل سنين طوال. الشّيطان ”كذّاب وأبو الكذّاب“ (يو 8: 44) لذلك فهو قتّال للنّاس.
الإنسان المَسكون من الشّياطين كان عريانًا ويعيش في القبور، إبليس نزع عنه كلّ لباس الإنسانيّة وجعله وحشًا تائهًا حائرًا مدمِّرًا ومدمَّرًا.
مهما تدهورت حالة الإنسان الأهوائيّة ومهما قُيِّد من الشّيطان المسيحُ لا يتركه بل يبحث عنه ويجده ليشفيه. لذلك، حين رأى الشّياطين يسوع مُقبِلًا إلى هذه المنطقة -الَّتي هي منطقة وثنيّة واليهود لا يخالطون الوثنيّين- عرفوا أنّ يسوع آتٍ ليطردهم من الرّجل وليحرّره من العذاب الَّذي كان يعيش فيه. الأهواء تُحقِّر الإنسان وتملأه اضطرابًا وتُفقده سلامَه.
الغباء الَّذي نعيشه هو أنّنا نتوقّع الخير من الشِّرير أكان إنسانًا أم روحًا. لا خير إلّا بروح الرّبّ، وما عدا ذلك جنون مُطبِق.
الإنسان يطلب أن يحيا بكرامة، ولكن لا كرامة لمن يسير في طريق أرواح الشّرّ لأنّه ترفعه أوَّلًا لتخبطه إلى أسفل ثانيًا فتدمّره تدميرًا شاملًا.
العديدون يذهبون لاستشارة ”شيوخ روحانيّين“ هم ليسوا بالحقيقة سوى كذبة ومستحضرين لأرواح الشّرّ. من يذهب إلى هؤلاء يخرب نفسه ويدمّر حياته ويصير مسكونًا من الشّياطين.
الشّيطان يريد تدميرك بالكلّيّة أفتفتحُ له أبواب قلبك؟!… أنت قرّرت ذلك حين تبعت ملذّات الجسد وشهوات السُّلطة ودغدغات العُجْبّ وعشق المديح…
* * *
أيّها الأحبّاء، نحن في زمن الشّيطان بامتياز، حيث كلّ ما يخالف صورة الله في الإنسان صار مشرَّعًا بالقوانين ويمارَس على المؤمنين الضّغوط ليقبلوا بما ليس من حقيقة الإنسان في خلق الله له.
الزّمن زمن مواهجة بين أبناء النّور وأبناء الظّلمة. الكثير ون أظلمَت عقولهم وسكن الشّياطين قلوبهم، فصاروا ينادون بما هو ضدّ الطّبيعة، ويناصرون ما هو مخالف لكلمة الله، ويناصرون من هم عبيد لإبليس… هذا كلّه بكذبة الحرّيّة المنطلقة من الأنا وعبادة الذّات.
الكثيرون تلوَّثت أذهانهم وأظلمت أفكارهم فصاروا عراةً من نعمة الله وخسروا صورته فيهم الّتي جُدِّدت بالمعموديّة. لماذا هذا كلّه لأنّهم سقطوا من حيث لا ينظرون إذ ظنّوا في أنفسهم كمال المعرفة.
المتكبِّر لا يمكن إلّا أن يصير شَبِقًا فينحطّ بسبب عبوديّة الشّهوة، شهوة السُّلطة وشهوة الجسد.
* * *
مجنون كورة الجرجسيّين جُنَّ لأنّه شعبه أيضًا في عبوديّة إبليس، ولكن بقدر ما تسلَّط على النّاس تسلَّط عليه شياطين، فخسر نفسه وكرامته وسلطته ومجده وجماله وسلامه ومقتناياته إذ تعرّى من كلّ شيء… دخل في عدميّة الأهواء وجحيمها اللّانهائيّ…
يسوع أتاه وشفاه وردّه إلى صورة الله الّتي فيه، فصار غريبًا عن شعبه منبوذًا ولكنّه وُهب أن يصير بشيرًا ورسولًا حاملًا صورة المعلِّم وقوّته في كيانه. بعدما صار المجنون صحيح العقل كُشف جنون أهل كورته…
فهل من عاقل طالب الرَّبّ؟!… أم نحن نخضع لابتزاز العالم ومنطق العالم فنخشى ونخاف على مصالحنا وصورتنا أمام النّاس في حين تكون صورتنا أمام الله مشوّهة!…
مَنْ الأوْلَى بالطَّاعة الله أم النّاس؟!…
من له أذنان للسّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما