كلمة البطريرك يوحنا العاشر
في صلاة الشكر في عكار-الشيخطابا، 4 أيار 2019
صاحب السيادة،
أيها الأحبة،
المسيح قام، حقاً قام.
من بهاء الفصح أطل عليكم وبسلام المسيح أحييكم.
يطيب لي أن أكون بينكم في عكار، في عكار التي تضمنا اليوم إلى قلبٍ واحدٍ ولسانُ حالها حب لبنان. عندما يكون المرء في عكار ينساب قلبه مع هذه الجبال والوديان ليصب في بحر من الحب والشكران وينجلي وهج نصاعةٍ يخيطها ثلج لبنان فتسيلَ دفق محبة لكل طيفٍ من أطيافه.
نوافيكم اليوم في زيارة رعائية أردناها أن تكون لأبنائنا ولكل أبناء عكار. أردناها إطلالة محبةٍ على لبنان وعلى قلبه الشمالي. أردناها إطلالةَ محبةٍ على أبرشية عكار برئتيها اللبنانية والسورية. وأردناها، من على ضفة الكبير الشمالي، تحيةً لأبنائنا في عكار في وادي النصارى وفي صافيتا وطرطوس.
أحييكم إخوتي الحاضرين وأحيي فيكم الأصالة العكارية واستقامة الحياة. وأحيي بشكل خاص سيادة راعي الأبرشية المطران باسيليوس منصور. أحيي فيه طيبة الصلابة التي تمّحي أمام ملك المجد يسوع المسيح. أحيي فيه “ملوكيّة الإيمان المنصورةَ” بعتاقة التاريخ الذي أحبه تاجاً على رأس كنيسة المسيح ورسله، أنطاكية التي سكبت اسم يسوع حلاوةً على شفاه الأجيال. نثمن جهودكم صاحب السيادة ونعلي إنجازاتكم التي انجلت في البشر قبل الحجر. ونكبر فيكم تلك الأصالة والغيرة التي تنجلي في نفوس بنيكم محبة وشكراناً وعرفاناً لراعٍ أحب الرعية وبذل كل شيء في سبيلها.
يا أهل عكار، يا قلوباً ملأها الإيمان ففاحت على دنيانا فيض محبة. يا عكار التي تقرع أجراسها فرحاً وحزناً لتقول إن الله صابغٌ كيان حياتها، كما وترفع آذانها بتسامح ومحبة لتقول إن مرضاته بتآخي عباده من كل الأطياف. يا أهل عكار التي تقدم بواكير ثمارها حباً بالضيف وتعجن من قمحها قربان الكنيسة. يا أهل الطيبة التي تعصر سلاف القلب ترحاباً بكل ضيف وتقدم بواكير الأبناء خميرةً صالحةً في بنيان الوطن ومؤسساته.
ننحني اليوم أمام عكار وأمام أصالة عكار. وإذا كانت عكار في الشمال اللبناني إلا أنها في قلبه وفي قلبنا جميعاً. إلا أن هذا لا يعفي من المسؤولية بأن تكون هذه المنطقة في قلب اهتمامات الساسة ونواب الشعب. عكار، يا أحبة، مزروعةٌ في قلوب أبنائها مهما ابتعدوا عنها. هي مزروعة في القلب. هي الجدة الأولى وحكايا الأيام العتيقة وخبايا الأزقة الحلوة التي تأسر القلب وهي الحنين الأول للضيعة وللتين والعنب. عكار هي العراقة والخمر العتيقة التي تطيب بعتاقتها وتسكر قلوب أبنائها شغفاً بها وبلبنان والشرق.
أنا ابن هذه الأبرشية المغروسة في قلب كنيسة أنطاكية وفي قلبي جزء من قلبها. واسمحوا لي أن أذكر هنا طفولتي التي قضيت بعضها في رماح، بلد أمي، وأن أذكر أيضاً مرمريتا في وادي النصارى الذي أعتزّ به وبقراه المتناثرة العزيزة وبتحدّري منه. وإذ أذكر هذا، لا أقوله لفخرٍ أرضيٍّ زائف، وإنما لأقول إن عكار وغير عكار ومن ورائها تلك الكينونة المسيحية الأنطاكية هي التي صمدت وساهمت في تبيان خصوصية كنيستنا الأنطاكية وتلاحمها ووحدتها.
لقد آثرت العناية الإلهية أن أرتبط بهذه الأبرشية لأكثر من خمسة عشر عاماً ما بين رئيسٍ لدير مار جرجس الحميراء وأسقفٍ للحصن-وادي النصارى، ومساعداً لشخص أذكره دوماً بكثيرٍ من المحبة والاحترام، وتحضر ذكراه اليوم، عنيت به المثلث الرحمة، الوديع على مثال معلمه، المطران بولس بندلي. نذكرك يا سيدنا بولس ونصلي إلى الله أن يتغمد نفسك بمراحمه الإلهية ونحن نرى أثمار أتعابك في وجوه أبنائك وفي كل بقعةٍ من هذه الأبرشية.
في موسم الفصح المجيد، نرفع وإياكم صلاتنا إلى الله أن يحفظ عكار ولبنان موئلاً للعيش الواحد والمواطنة. نصلي اليوم من هذه الدار الكريمة من أجل استقرار لبنان ونرفع دعواتنا جميعاً إلى العذراء مريم التي نكرمها مسيحيين ومسلمين أن تحوطنا جميعاً بحمايتها. إن مسيرة العهد الرئاسي لا تكتمل إلا بتضافر الجميع إلى جانب فخامة الرئيس. إن الوضع في لبنان لا يحتمل المزيد من المناكفات التي لا تأتي إلا على حساب المواطن الذي يُحارب بلقمة العيش والموبقات البيئية وبالبطالة المتزايدة. ندعو القيمين على الشأن العام أن يراعوا الخطاب الهادئ المتّزن ليدرأوا عن هذا البلد كل تداعيات الانقسامية والتزمت والتطرف الذي لا يمت إلى القيم المشرقية بصلة.
نتوجه بمعايدة قلبية لإخوتنا المسلمين في شهرهم الفضيل رمضان القادم ونتمنى لهم أياماً مباركة تحت مظلة الرحمة الإلهية والصدقة المباركة التي تستدر مراحم الله على خليقته. أعادها الله أياماً مفعمة باليُمن والرضوان.
نصلي أيضاً اليوم من هذا المكان الشريف من أجل سلام كل العالم، ومن أجل أن يعود السلام والأمان إلى سوريا وإلى كل بقعة فيها وحتى آخر شبرٍ من حدودها بما فيها الجولان. ولا ننسى فلسطين الجريحة وقدسها الشريف والعراق وكل بقعة من الشرق.
ونلفت من ههنا إلى قضية مطراني حلب يوحنا إبراهيم وبولس يازجي المخطوفين منذ نيسان 2013 وسط سكوت العالم وأروقة الأمم عن قضيتهم وقضيتنا.
أنتم، أحبتي، في قلب كنيستنا الأنطاكية. نحن الأنطاكيين قد شربنا إيماننا مع حليب أمهاتنا وعمدناه بدم شهدائنا وبصمود آبائنا وأمهاتنا الذين جبلوا عيشهم وعرقهم بتراب هذا الشرق العظيم وورثونا إنجيل يسوع المسيح بالكيان والكنه والقلب، فكانت حياتهم إنجيلاً مفتوحاً أمامنا أنبضوه في عروقنا وأنبضناه في عروق أبنائنا، وسننقله إلى أبنائنا ما دام فينا دم يجري. ونحن كمسيحيين أنطاكيين عاقدون العزم أن نبقى في أرضنا مهما كلح وجه زمانها. نحن باقون في الشرق ومنغرسون فيه انغراس الأرز في لبنان. وإن قوة في هذه الدنيا لن تزيحنا من أرضنا ولن تغربنا عن هذا الشرق الذي عشنا ونعيش فيه، رغم كل صواعد ونوازل التاريخ.
أبعث من هنا بالبركة الرسولية إلى كل أبنائنا في أبرشية عكار في الوطن وبلاد الانتشار. نحن مفعمون فرحاً لوجودنا بينكم. بارككم الله جميعاً وأغدق عليكم من نعمه السماوية، هو المبارك إلى الأبد آمين.
المسيح قام حقاً قام.