كلمة صاحب السّيادة في المطوّب الذّكر المُتقدِّم في الكهنة الأب غريغوريوس (موسى)
في جنازته الأحد الواقع فيه 23 كانون الثّاني 2022
في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس– الميناء
باسم الآب والابن والرُّوح القدس.
سيادة الأخ الحبيب ملاك هذه الأبرشيّة المَحروسة بالله المتروبوليت أفرام الجزيل الاحترام
قدس الآباء والشّمامسة الأجلّاء
عائلة قدس المُتقدّم في الكهنة المُطوَّب الذّكر الأب غريغوريوس الرَّاقد بالرَّبّ
أيّها الأحبّاء جميعًا
“طُوبَى لِمَنْ إِلهُ يَعْقُوبَ مُعِينُهُ، وَرَجَاؤُهُ عَلَى الرَّبِّ إِلهِهِ” (مز 145 (146): 5).
أبونا “غوريغوريوس” كما يحلو لنا في الميناء أن نناديَه لم يكن له متَّكلٌ سوى “إلهُ يعقوب” ولم يضعْ رجاءً إلّا “على الرَّبّ إلهه” والرّبُّ لم يخذلْه يومًا، بل أنماه في روح إخلاء الذّات الكلّيّ هو الَّذي تعلَّم أن يحملَ صليبَ محبَّة الآخَر برضًى وتسليم لله “الضابط الكلّ”.
* * *
ماذا نقولَ لك يا أبانا عنكَ في هذا اليوم الَّذي نجتمع فيه حولك، لكن ليس لكي نأكل طعامَ محبَّتك في لُقيانا بك وكلامِنا معك وتعزيتِنا من قُربِنا إليك، بل لكي نعترفَ لك بما أشبعتَ به قلوبَنا وأرواحَنا من حنان أُبُوَّتك وصدق علاقتِك بالله ومَن عَرفوك وعرفتَهم…
كلماتُنا تَقصُرُ عن وصف حقيقتكِ الّتي أخفيتَها “عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ” (مت 11: 25). من يفهمُ سرّ الاتّضاع الأقصى إلّا الأنقياء؟!… هكذا كنتَ غريبًا عن العالم وقريبًا من أهل العالم لتنتشلهم بمحبّتك، للرَّبّ فيهم، من العالم إلى مَن بذل نفسه “من أجل حياة العالم”.
لم نرَكَ بعيدًا عنّا بل كنت لصيقًا بنا وبكلّ إنسان أعطاك الرَّبّ أن تخدمه فيه. خدمتُك كانت أبويَّةً، وبهذه الصّفة لها دالّة وسلطان من فوق، لأنّك تعلّمت أن تكون أبًا ببنوَّتِكَ للَّذي اختاركَ له ذبيحًا بعطاء نفسِك ووضعِ ذاتِك على صورة الحمل المذبوح منذ إنشاء العالم.
* * *
رافقتَ أبناءَ رعيّتِك في يوميّاتهم وحاجاتهم وضعفاتهم ومشاكلهم وأفراحهم وأحزانهم، بعد أن حمَّلَكَ الرَّبُّ بواسطة المثلَّثِ الرَّحماتِ والمطوّبِ الذّكرِ المتروبوليت إلياس (قربان) صليبَ خدمتِها في ٣١ تشرين الأوّل ١٩٦٥م، بعد أن كنت قد انطلقت في مسيرة تكريسك مُبتدئًا في مدرسة البلمند الإكليريكيّة من عام ١٩٥٠م إلى عام ١٩٥٦م، ثمّ توجّهت إلى جزيرة بطمس في اليونان حيث درست سنتين في مدرسة الكهنوت تمهيدًا للدُّخول إلى جامعة اللَّاهوت في أثينا، الَّتي حُزْتَ فيها على الإجازة في اللَّاهوت عام ١٩٦٤م. كما أنّكَ قبل تكريسك تزوّجت برفيقة دربك وحبِّ حياتِك الخوريّة فاسيليكي أناستاسيو في ٢٣ شباط ١٩٦٤م، هذا الزّواج الَّذي أثمر وردتَين هما هيلانة وأنستاسيا.
كان للخوريّة فاسيليكي دورًا جوهريًّا في مسيرتك الكهنوتيّة وخدمتك، هي كانت الدّعم والسَّند والحضن وبئر الأسرار الَّذي لا يُسبرُ غوره. هي كانت المثبّتة لك في جهاد الصَّوم والصَّلاة والخدمة والعطاء لأنّها شاركتكَ إخلاء الذّات لأجل خدمة كنيسة المسيح حبًّا بالمسيح الَّذي تربَّت على حبّه وطاعته والأمانة له. فكنت إذا أردتَ أن تعلّم المؤمنين كيف يصومون تقول لهم بأنّ الخوريّة هي ملتزمة بالصَّوم بدقّة ولا تسمح لك بالتّساهل في هذا الأمر في أيّ مجال كان من المأكل إلى المضجع الزّوجي إلى الاقتصاد في المصروف بهدف العطاء… هكذا كنت معلِّمًا بالقدوة الصَّالحة وبحكمة الاتّضاع ونعمته. بالحقيقة إنّ الخوريّة فاسيليكي كانت هي المرأة الصّالحة الّتي يقول فيها سفر الأمثال: “اِمْرَأَةٌ فَاضِلَةٌ مَنْ يَجِدُهَا؟ لأَنَّ ثَمَنَهَا يَفُوقُ اللآلِئَ. بِهَا يَثِقُ قَلْبُ زَوْجِهَا فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى غَنِيمَةٍ…” (أم 31: 10 – 11).
أمّا ابنتاك وصهراك وأحفادُك، فكم كنت تحبّهم وتفرح بهم، ولكنك لم تُبَدِّهِمْ يومًا على خدمتك ورسالتك ورعيَّتك.
* * *
كنتَ كلَّ يوم، في القَرِّ والحَرِّ في الحرب والسِّلْم في الضّيق والرّخاء، حاضرًا في مكتبك، بعد أن تكون قد أتممت خدمة السَّحريّة اليوميّة أو القدّاس الإلهيّ أيّام الأربعاء والسّبت والأحد ما عدا الأعياد. يأتيك المُصَبِّحون يستفقدونك ويتبرّكون، كما يَعودُك المحبّون والمارّون، ويَقصُدُك المُعْوَزُون والمضنوكون. كان فرحُكَ لقيا الوجوه تراها نافذةً إلى وجه ربِّكَ في القلوب المُحِبَّةِ والتّائهةِ والحائرة والمتألّمة والحزينة والفَرِحَةِ. لم يكن يَخفى عليك ما في القلب، ولذا بعفويّة محبّتك واستقامة صُدقِكَ كنت تستجيب وتجيب. أنت لا تعرف المواربة ولا تقبل الزّغل. منحكَ الرَّبُّ إيمانًا ثابتًا وحارًّا كإيليّا النّبيّ وشجاعةً كجاورجيوس المظفَّر وحكمةً كيعقوب أخي الرّبّ وروحَ شهادة كيوحنّا المعمدان، الَّذين خدمتهم في كنائس هذه الرَّعية المباركة ومدحت سيرتهم باقتدائك بصفاتهم.
* * *
سموُّ اللّاهوت وعمقُهُ تعلّمته ليس في الدّراسة اللّاهوتيّة بل في خبرة صلاتك الّتي كنت ترفعها بصوتك الشّجيّ ونغمات قلبك الصّادرة عن حنجرة روحكِ والّتي كانت، بخاصّة، تصدحُ في أرجاء هذه الكاتدرائيّة المقدَّسة. روحُكَ انبثّت في حجارة هذا الهيكل ولا أقصد هنا الحجارة الصّخريّة، الَّتي شاركت في ترميمها بيدَيك، وحسب بل المؤمنين الَّذين وُلدوا ونشأوا وكبُروا على صوتك يُطربهم ويرفعهم إلى السّماوات، لا سيّما مع رفيقِ دربِ الخدمِ الدّائم المرتّل الأوّل الاستاذ ديمتري كوتيّا الَّذي كنت وإيّاه صُنْوانِ لا ينفصلان في رفع الحمد والتّسبيح والتّمجيد لله. وفي حضور المثلث الرّحمات المتروبوليت إلياس (قربان) كان مجدُ الثّالوث القدّوس يتنزَّل على المُصَليِّن بالرُّوح القدس متجلِّيًا بهذا الثَّالوث الـمُصَلِّي على هيئةِ أيقونةٍ ثالوثيَّة مَلَكُوتيَّةٍ بالكلمة في الرُّوح بالنَّغم…
موهبتك الموسيقيّة صقّلتها بالعلم والخبرة في روح الصَّلاة، حيث جمعت بين التُّراث القسطنطينيّ والشّرقيّ العربيّ بائتلاف مميَّز كان يتجلّى بخاصّة في الخدم الّتي كانت ألحانها ابنة ساعتها لا سيّما مع الأستاذ ديمتري كوتيّا.
وهكذا صرت أحد أعمدة التّرتيل الكنسّي في كنيستنا، وأوّل مَن درّس أصول التّرتيل والموسيقى الكنسيّة في معهد اللّاهوت في البلمند وفي رعايا الأبرشيّة، وقد تتلمذ على يدك الكثير مِن المرتّلين والإكليريكيين.
* * *
محبّتُكَ للصَّغير والكبير. تتعهَّدُ الأوّل من المَهْدِ إلى اللَّحد، وتحتضن الثَّاني في السّرَّاء والضَّرّاء. كنت المعزّي للحزانى، والملجأ للمُتعَبين، والسَّنَدَ للضُّعفاء، والأنيسَ للمستوحدين، والحنان لليتامى، والشَّبعَ للجائعين، والشِّفاء للمرضى، والغافرَ للخطأة … كلُّ هذا كنْتَه أو صِرْتَهُ لأنَّك في مسيرة حياتِكَ وهبكَ الرَّبُّ أن تتعلَّمَ يومًا بعد يوم أن تخلِيَ نفسَكَ من كلِّ أنانيَّةٍ وحبٍّ للمال وتمسُّكٍ بالسُّلطة وأيَّة شهوة أخرى إذ صار هو مُشْتَهَاكَ وحياتُكَ…
لقد كنت، بغَيرتِك على خدمة السّيّد، مالئًا دنيا أحبّاءِ الرَّبّ وأسيادِك أي الجائعين إلى اللُّقمة والحقّ والعطشانين إلى البِرّ والنَّقاوة والغرباءِ عن أسياد العالم والمعرفة والعراةِ من الفضيلة والمرضى في الجسد والنَّفس والرُّوح والمحبوسين في خطاياهم والسُّجون.
لقد لازمتَ المساكينَ في الرَّعيَّة والمدينة، ممازحًا ومشارِكًا لهم في طباعهم وعاداتهم فكنت سريع الغضب وسريع المُصالحة، تمالِحُ الفقير والغنيّ، وتشارك الصَّيّاد ورجل الأعمال حياتهما.
بهذه الغَيرةِ والمحبّة البسيطة وغير المتكلِّفة استطعتَ الدُّخولَ إلى عقولِ وقلوب أبناءِ الميناء وكلّ من عرفَكَ لأنَّك عشت حياتهم معهم وفيما بينهم، في أصغر يوميّاتِهم من الفجر إلى النَّجر، كما يقول المثل. والأهمّ أنَّك تعرف كلّ إنسان باسمه وتفاصيل حياته، من الطّفل الصَّغير إلى الرَّجُل الكبير. رجالًا ونساءً شبّانًا وشابّات، أولادًا وبناتًا، الكلّ أحبَّك لأنّك كنت بمحبّتك وتواضعك وامتدادكَ الدَّائم تكسر كلّ حاجزٍ نشأ أو قد ينشأ مع الآخَر.
هكذا كنتَ تنبُذُ الخُصُومَات والتّحزّبات، وتَمُجُّ الطَّائِفيَّة وتعمل من خلال شهادتك للرَّبِّ ومشاركتكَ مواطني بلدكَ سعيَهم إلى تحصيلِ حقوقِهم، وخاصّةً في زمنِ المطالباتِ بالأمنِ والاستقرارِ. كما عملت لجمُعِ المَسيحِيِّين مع كلّ أبناء المَدِينَة لخير الإنسان والوطن، فكنت حاضرًا معهم في مناسباتهم الحلوة والمرّة مشاركًا لهم كأب وأخ. فعلًا كنت أبًا لجميع أبناء الميناء موحِّدًا الجميع في ذاتِك وحياتِك.
لقد ضحدتَ كلّ فتنة وحاربتَها حاملًا ألم الشَّهادة بذرف الدُّموع على أختك الَّتي اغتالتها يدُ الغدرِ والفئويّ، وعلى الّذين سُفكَتْ دماؤهم إبَّانَ الحربِ الأهليَّة، فلَم تَرهب التَّهدِيد ولا المَوت، بل شَدَّدْتَ أبناءَ رَعيَّتِكَ وثبّتهم بثباتكَ، ولم تَخَفِ البَحثَ عَن شَبابٍ نُكِّل بهم وقُتِلُوا اشنعَ قتلٍ بل ثابرت عَلى إيجادهم والصّلاة عليهم ودَفنِهمِ كما يليق رُغمَ كُلِّ التَّهدِيدات الَّتي وُجِّهَت إليك.
* * *
أبتي الحبيب، أبونا “غوريغوريوس”، أراني مُقَصِّرًا عن إيفائك ولو النَّذَرَ اليسيرَ من حقِّكِ على محبّتك لنا نحن أبنائِك في هذه الرَّعيّة، وما زال عندي الكثير الكثير لأقوله، ولكنّي التجئُ إلى تواضُعك لكي تسامِحَ تقصيري عن التّعبير عن محبّتي ومحبّة كلّ من كنت له أبًا، شاكرًا لملاكِ هذه الأبرشيّة المحروسة بالله سيادة الأخ الحبيب المتروبوليت أفرام الجزيل الاحترام منْحَهُ لي هذه البركة العُظْمى إذ كلّفني باسمه أن أكشف شيئًا من سرِّكَ لتعزية من أحبّوك ومن أحببت: العائلة وأبناء الرَّعيّة وإخوتي كهنة هذه الرَّعيّة وكهنة هذه الأبرشيّة وكلّ الّذين عرفوك وأحبّوك…
ها أنت اليوم قد “جَاهَدْتُ الْجِهَادَ الْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ السَّعْيَ، حَفِظْتُ الإِيمَانَ” (2 تي 4: 7)، هوذا السَّيّد يدعوك لتدخل جوق الشّيروبيم والسّيرافيم تسبُّحه معهم، ضامًّا إيّاك إلى متقدِّمي أبناءِ ملكوتِه. لقد كشف لك الرَّبُّ يوم رقادك لإسلامك له ذاتك قبل نومك القصير قائلًا: “لتكن مشيئتك” ثلاثًا، كما أخبرتني كريمتُك أنستاسيا اليوم، فدخلت النوم الكبير نوم الرُّقاد. وكما يقول الرَّبّ، حيث يكون السّيّدُ فهناك يكون خادمُه الأمين، فـ “نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ! كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ” (مت 25: 21).
فردوسٌ مبارَك…
المسيح قام! حقًّا قام!
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما