Menu Close

نشرة كنيستي- أحد الفصح العظيم المقدَّس- العدد 18

05 أيّار 2024

كلمة الرّاعي

فصحُنا المسيحُ… حياتنا الجديدة والمتجدِّدة…

فصحُ المسيحِ أي عبورُه من الموت إلى الحياة هو حدثٌ تاريخيّ لا مثيل له، لأنّه بدءٌ جديدٌ للبشريَّة، خلقٌ أخيريّ (eschatologique) في الزَّمن إلى ما بعد الزَّمن في خالق الزَّمن…

فصح العبرانيّين كان آخر فصح لهم قبل فصح المسيح، لأنّ فصحهم اكتمل في الحمل الحوليّ الَّذي لا عَيْب فيه الَّذي بدمه المهراق على الصَّليب خلّص كلّ الَّذين سيؤمنون به على مَرِّ السِّنين والأزمنة. بعد فصح يسوع انتهت اليهوديَّة كديانة وكشعب، لأنّ إسرائيل الجديد قد بزغ من القبر ناهضًا محطِّمًا أمخال الجحيم وأبوابه ومحرِّرًا الَّذَين كانوا في قبضته. انتهى إسرائيل القديم بالقيامة، وأيضًا الخليقة القديمة قد عبرت بالمسيح وفيه إلى وجود جديد، “إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا” (2 كو 5: 17)…

* * *

المسيح نفسه هو الفصح بالنِّسبة لنا، لأنّ فيه عبرت البشريّة العتيقة بالموت إلى بشريّة جديدة متحوِّلة من فساد إلى عدم فساد ومن بِلى إلى عدم بِلى ومن محدوديّة وجود إلى لانهائيّة، ومن خضوع لنتائج السُّقوط إلى حرِّيَّة الأبديَّة. كذلك، فإنّ “الْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضًا سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ” (رو 8: 21)…

ما هي صفات هذه “الخليقة الجديدة”؟ إنّها عكس الخليقة القديمة الَّتي أصحابها “هُمْ مُظْلِمُو الْفِكْرِ، وَمُتَجَنِّبُونَ عَنْ حَيَاةِ اللهِ لِسَبَبِ الْجَهْلِ الَّذِي فِيهِمْ بِسَبَبِ غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ. اَلَّذِينَ – إِذْ هُمْ قَدْ فَقَدُوا الْحِسَّ – أَسْلَمُوا نُفُوسَهُمْ لِلدَّعَارَةِ لِيَعْمَلُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ فِي الطَّمَعِ” (أف 4: 18 – 19). هذا هو الإنسان “الْفَاسِدَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ الْغُرُورِ” (أف 4: 22). أمّا “الإِنْسَانَ الْجَدِيدَ الْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ اللهِ فِي الْبِرِّ وَقَدَاسَةِ الْحَقِّ” (أف 4: 24) فهو على صورة يسوع المسيح وهو يحقِّق فيه هذه الفضائل بنعمة الرّوح الكلّيّ قدسه الَّذي يعطي الإنسان أن يصير مسيحًا صغيرًا ينمو بالتّآزُر بين إرادته وجهاده وطاعته لله، وبين قوّة الثّالوث القدّوس المنسكبة عليه في جسد المسيح أي الكنيسة بالرُّوح الإلهيّ…

ظلمة الأهواء تكتنف الإنسان العتيق ونور النِّعْمَة يملأ الإنسان الجديد ويشعّ منه (راجع مت 5: 14). لا خلاص من ظلمة الخطيئة وهذا الدّهر بدون يسوع “نور العالم” (يو 8: 12)، فهو قال عن نفسه: “أَنَا قَدْ جِئْتُ نُورًا إِلَى الْعَالَمِ، حَتَّى كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِي لاَ يَمْكُثُ فِي الظُّلْمَةِ” (يو 12: 46).

* * *

أيّها الأحبّاء، ليست القيامة حدثًا تاريخيًّا صار وانتهى، إنّ الحدث الَّذي غيّر وجه التّاريخ بأكمله وأدخل الأبديّة في الزَّمن حتّى أنّ كلّ من يؤمن بيسوع ويعيش فيه وبنعمته يصير ابن الدّهر الآتي، ابن الآخِرة وملكوت السَّماوات، وتاليًا هو مُعطى صفات أبناء الملكوت أي صفات المسيح بالرُّوح القدس أي بالنِّعْمَة الإلهيّة غير المخلوقة الّتي حين تُأقنَمُ في الخلق الجديد بالمعموديّة والميرون المقدَّس والأسرار الإلهيَّة تصير مُلْكًا للإنسان الجديد المولود على صورة المسيح من جرن المعموديّة – رحم الكنيسة وبوابة الدّهر الآتي والحياة الأبديَّة…

إنّ قيامة المسيح الرّبّ هي حدث مستمرّ في حياة المؤمن بالتَّوبة، “أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ اعْتَمَدَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ اعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ، فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ الآبِ، هكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ؟ لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضًا بِقِيَامَتِهِ…” (رو 6: 3: 5). من صار في المسيح لا تسود عليه الخطيئة بعد، لكن من لبس المسيح ولم يعلم أنّه صار ذبيحًا لله في طاعة الكلمة للبِرِّ والقداسة يبقى في خطاياه وموته، أمّا الَّذين يقدّمون أَجْسَادَهُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتُهُمُ الْعَقْلِيَّةَ (راجع رو 12: 1) فهؤلاء يصيرون قياميِّين في فكرهم وكيانهم وحياتهم أي هم يعبرون دومًا بذبيحة الطَّاعة والتَّسبيح والخدمة في التَّوبة إلى تجدُّد كيانهم بيسوع المسيح النّاهِض من بين الأموات بالرُّوح القدس الَّذي يُسكب عليهم في أسرار الكنيسة وفي سكب حياتهم ذبيحة حبٍّ للمسيح في الآخَر ولأجله…

هكذا يصير تجديد الخليقة بالمسيح في المؤمنين به التّوابين والمملوئين من الرُّوح المعزّي والحقّ، في كلّ إنسان جديد وقائم من الموت بالمسيح يصير تجديد الكون والحياة وتُطرد الظّلمة وينبلج نور الحياة الجديدة والمحبّة الإلهيَّة والحقّ والإنصاف… بالمسيحيّين الحقيقيّين يصير العالم مكانًا أفضل… هذا هو جهادنا ودأبنا في اتّباعنا يسوع المسيح الغالب بالحبّ والوداعة والتَّواضع…

نرفع الدّعاء إلى ملك الملوك وربّ الأرباب أن: “قم يا الله واحكم في الأرض…” ليسوده العدل والسَّلام والفرح والحقّ، وارفع الظّلم عن الشُّعوب المقهورة والمتألّمة وعن كلّ إنسان في ضيم وضيق وألم وأنهض الواقعين في ظلمات اليأس والقُنوط إلى نور قيامتك والحياة الجديدة بك يا حياتنا ورجاءنا المجد لك… حتّى نصرخ جميعنا بصوتٍ واحِدٍ وقلبٍ واحِدٍ مُزَلْزِلٍ أركان سيادات هذا العالم السّاقط، ونهتف كلُّنا:

المسيح قام! حقًّا قام!

+ أنطونيوس

متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما

مواضيع ذات صلة