نشرة كنيستي- الأحد (5) بعد الفصح (الأعمى)- العدد 23
09 حزيران 2024
كلمة الرّاعي
عمل الله وشكوك البشر
“أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ” (يو 5: 17)
كثير من النّاس لا يَرَوْن عمل الله، ولأن الله لا يُرى إذ هو روح (راجع يو 4: 24 و14: 17) يعتبرون أنّ الله غير موجود. هؤلاء يُدعون ملحدين. لكن، يوجد من يُسَمّون أنفسهم مؤمنين ويعيشون وكأنّ الله غير موجود وميت!… لماذا؟! لأنّهم يتمسّكون بصورةٍ عن الله في أفكارهم يَحدُّونَه فيها، وتكون من نسج أهوائهم وضعفاتهم… أي هم يعبدون وثنًا صنعوه بأنفسهم وليس الإله الحيّ الَّذي هو الخالق وحده…
ما هو عمل الله الآب؟! ما عمله الابن، لأنّ الابن عمل ما يعمله الآب. عمل الله خلاص البشر… كيف بالاتّخاذ. يقول الآباء القدِّيسون “ما لا يُتَّخَذ لا يخلُص” (ce qui n’est pas assumé n’est pas sauvé). الله الآب اتّخذنا نحن البشر بابنه الوحيد ليُعيد الوَحدة بينه وبيننا، بعد أن فصل الإنسان نفسه عن الخالق بالمعصية. بالقيامة من بين الأموات حقَّق لنا المسيح الغلبة النِّهائيّة على الموت وعلى مصدره أي الخطيئة الَّتي هي في العمق عدم الطَّاعة… لأنّ الموت دخل حياتنا بعدم طاعة الوصيّة والغلبة على الموت صارت بمن “أطاع حتّى الموت موت الصَّليب” (في 2: 8). عمل الله أنْ يُحيينا ويَهَبنا الحياة الأبديَّة. هذه الحياة آتية، لكنّها في المسيح حاضرة ومُعاشة، أيضًا، الآن وهنا…
* * *
في هذه الأيّام الصَّعبة الَّتي يعيشها كوكبنا بسبب الحروب والقتل والدَّمار والظُّلم والفساد إلخ. يتساءل الكثيرون أين الله من كلّ هذا؟ أين هو لماذا لا يتدخّل؟ السُّؤال لنا نحن المؤمنين، هل نترك الله يتدخّل في حياتنا، أو بالأحرى، هل نحن نعيش أمناء له ولوصيّته ولعمله الَّذي يطلبه منّا؟!… هل نحن نعيش مع الله ونعمل رضاه؟!… هل الله هو محور حياتنا؟!… هل هو أولويّتنا؟!… هل نصنع حقَه؟!…
ربَّما يَستصعِب البعض هذه الأسئلة، لأنّ واقع الحياة قد يفرض علينا الأولويّات وأنماط المعيشة، ولكنّ المؤمن مجاهد ولا يستسلم للعالم أي لرُوح السُّقوط الَّتي تحكمه، بل يصارع مع الله للحَقّ والبِرّ والرَّحمة، ويكون شاهِدًا شهيدًا إلى آخر رَمَق من حياته. هذه هي قوّة الرَّجاء بالله في العالم الَّتي يكشفها الرَّبّ في المؤمنين به الَّذين يَصِيرون بالمسيح وفيه خلاصًا للعالم، لأنّ فيهم “الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ الْتَقَيَا. الْبِرُّ وَالسَّلاَمُ تَلاَثَمَا. الْحَقُّ مِنَ الأَرْضِ يَنْبُتُ، وَالْبِرُّ مِنَ السَّمَاءِ يَطَّلِعُ” (مز 85: 10 -11).
* * *
أيُّها الأحبّاء، يَشُكُّ النّاس في أنّ اللهَ حَيٌّ وفاعِلٌ لأنّ شهادتنا كمسيحيّين خَفُتَتْ، محبَّتُنا ضَمُرَت، وتاليًا جُرأتُنا في الحقّ تتلاشى. العالم يحتاج المسيح، والمسيح جعلنا له شهودًا من حيث انطلق في بشارته إلى أقصى المسكونة (راجع أع 1: 8). الله لا يترك نفسه دون شاهد، إن تقاعسنا فهو قادر أن يقيم من الحجارة أبناء وشهودًا له (راجع مت 3: 9 ولو 3: 8). كلّ من يطلب الله يجده، لأنّ الله حاضر دومًا للَّذين يُريدونه.
الرَّبّ لم يترك يومًا الإنسان وعالمه، بل منذ البدء كلّم الإنسان ورافقه وتابعه عبر مختاريه ومرسليه وأنبيائه حتّى كلّمنا أخيرًا في ابنه الوحيد صانعًا لنا به وفيه خلاصًا أبديًّا (راجع عب 1: 1 – 4). العالم لا يمكن أن يتغيَّر ما لم نتغيَّر نحن بواسطة طاعة المسيح لنصير فاعلين بقوّة الكلمة في الرُّوح القدس. روح الرّبّ الَّذي رفرف على وجه الغمر قديمًا (راجع تك 1: 2) الَّذي بقوّته وفعله بواسطة كلمة الله نظّم الكون بحسب مشيئة الآب، هو نفسه يُحقِّق فينا كلمة الله وحين ينتظم في الكون الدّاخليّ ينتظم بنا بقوّة الرُّوح وفعل الكلمة، الكون الخارجيّ بحسب إرادة الآب. الله فاعل متى شاء في الكون بكلمة منه فقط، لكنّه شاءنا كلمته بالمسيح في الرُّوح القدس لتجديد العالم، فخلاص المسيح ممدود بالكنيسة في الرُّوح إلى الأكوان والخلائق كلّها… حبًّا منه لنا وقبولًا لحرّيتنا الَّتي من دونها لا نكون على صورة الله… فمن حُفِظَتْ به صورةُ الله بدقّة ونقاوة في تسليمه ذاته للكلمة الإله يصير حاملًا لروح الحياة والتَّجديد بروح الرّبّ القدّوس الَّذي يفيض منه كأَنْهَارِ مَاءٍ حَيٍّ (يو 7: 38).
بسببنا يؤمن النّاس وبسببنا يشكّكون، “وَلِكَثْرَةِ الإِثْمِ تَبْرُدُ مَحَبَّةُ الْكَثِيرِينَ” (مت 24: 12). لذلك، إن زاد البِرّ تضطرم المحبّة الإلهيّة في قلوب البشر ويزداد الإيمان في النّاس. هذا عملنا نحن المؤمنين بقيامة الرّبّ أن نجعل إيماننا ظاهِرًا في تَقْوَانا ومحبّتِنا وبِرِّنا الَّذين هم ثمرة روح الرّبّ القدُّوس فينا، هكذا نعمل عمل الله وبهذا نحارب الشّكّ عند ضعيفي الإيمان وغير المؤمنين حتّى يصل “الخبر الـمُـفرِحُ” (Εὐαγγέλιον) الخليقة كلّها…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما