نشرة كنيستي- الأحد (24) بعد العنصرة- العدد 49
8 كانون الأوّل 2024
كلمة الرّاعي
عمل الله في الكتاب المقدَّس: من العهد القديم إلى العهد الجديد
“وَفَرَغَ اللهُ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ مِنْ عَمَلِهِ الَّذي عَمِلَ. فَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذي عَمِلَ” (تك 2: 2)
ما هو عمل الله؟ يقول الرَّبُّ يسوع المسيح: “أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ” (يو 5: 17). هل يتوقّف الله عن العمل؟ وماذا يحدث إذا لم يعمل الله؟ وما غاية عمل الله؟ أسئلة نطرحها على أنفسنا لكي نعرف الله ونُدرك من نحن ولماذا خُلقنا وما هدف حياتنا.
يُعتَبَر الكتاب المقدَّس بنصوصه المتعدِّدَة والمتنوِّعَة سِجِلًّا موثّقًا لعمل الله منذ خلق العالم وحتّى الأيَّام الأخيرة. يشمل الكتاب المقدَّس بعهْدَيه القديم والجديد سَرْدًا تفصيليًّا للأحداث والوَقائع الَّتي تُظهر تدَخُّل الله في حياة البشر وقيادته للعالم. فالله ليس خارجَ الزَّمان والمكان مع أنّه مُنَزَّهٌ عنهما، لكنّه اختار حين قرَّر خلق الوُجود أنْ يدْخُل في حدوده مع أنّه غير مَحدودًا وأن يعمل فيه باستمرارٍ أي أنْ يخلُق دومًا حياةً جديدة لكيما يمدَّ وجودَه السَّرمَدِيّ في رأس خليقته أي الإنسان…
* * *
بداية ظهور عمل الله لنا هي في خلق العالم والإنسان، هذا الإنسان الَّذي خُلِقَ على صورَةِ الله ومِثالِه. كلُّ شيءٍ أوْجَدَه الله لأجل الإنسان الَّذي خان محبّةَ خالِقِهِ، ورغم ذلك لم ينفكّ الإله يعمل ليستعيده وليُعيده إلى دعوته أي أن يكون مثل الله وأنْ يشترك في حياة خالقه…
خطايا الإنسان تتزايد مع تَقادُم الزَّمَن، والله رغم ذلك يتابع الإنسان ويكلّمه ويرسل له أبرارًا وأنبياء ليوقظوه من خَدَرِ الخطيئة والعِصيان. بعد سقطةِ آدم وحوّاء، قايين يقتل هابيل ويزداد زَيَغانُ الإنسان حتّى أنَّ الله يندم أنَّه خلقه (راجع تك 6: 6)، ويُرسل الطّوفان ليجدِّد البشريَّة لئلَّا يفنيها بالكامل. ومِن ثَمّ يَقْطَع الله عهدًا أنّه لن يفني البشريَّة (راجع تك 9: 1 – 17)، وخرجت البشريَّة الجديدة من أبناء نوح الثَّلاثة سام وحام ويافث.
مِنْ نَسْلِ سام أتى إبراهيم، وقصَّة إبراهيم تُعتَبر محوَرِيَّة في العهد القديم، حيث يَعِدُ الله إبراهيم بأنْ يجعله أبًا لأمَّةٍ عظيمةٍ، وهذه الوُعود تتجلَّى في نهاية المطاف بإنشاء شعب إسرائيل. يَظْهَر الله مرَّةً أخرى في تاريخ موسى وخروج بني إسرائيل من مصر، حيث يتدخَّل الله بقُوَّةٍ ليُنقِذَ شعبه ويَقودُهم عبر الصَّحراء إلى أرض الميعاد. وقد تجلَّى الله لموسى في النَّار المتَّقِدَة وأعطاه الوَصايا العشر الَّتي أصبحت أساسًا لشريعة بني إسرائيل.
لكنَّ، إسرائيل لم يَسْلُك بحسب الشَّريعة إلَّا بتقطُّعٍ ولذا كان دور الأنبياء أساسيًّا في عمل الله لكي يردُّوا الشَّعبَ إلى الحقّ ويُنذِروهم بعاقِبَةِ مُخالفتهم لكلمة الله فيَعِظُون الشَّعب ويُرشدوه ويُعيدوه إلى طريق الرَّبّ. هذا كلّه كان تحضيرًا لمجيء المخلِّص “المسّيَّا” الَّذي وَعَدَ به الرَّبُّ حوّاء وإبراهيم وموسى وداود والأنبياء جميعًا.
* * *
“لَمَّا حَانَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ” (غل 4: 4 و5). ابتدأ اكتمال عمل الله لخلاص الإنسان من الموت والسُّقوط والخطيئة والشَّرّ بتجسُّد وميلاد ابن الله يسوع المسيح من مريم العذراء. تحقَّقت في يسوع مشيئةُ الله بالكامل، لأنّه أطاعَ الآب طاعَةً مُطْلَقَة (راجع في 2: 5 – 11)، وكَشَفَ يسوع سِرَّ الله المحبَّة وأنّه شركة ثالوثيّة في وحدة جوهريّة وتمايُز أقنوميّ. وبالمسيح غُلب الموت وأُبيد على الصَّليب حيث “حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ الْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ” (1 بط 2: 25)، وهكذا منح البشر قوّة ليغلبوا هم أيضًا بعد أن صعد يسوع إلى السَّماء وأرسل الرُّوح القدس على التَّلاميذ وولد الكنيسة…
بيسوع النَّاهِض من بين الأموات تحقَّق مشروع الله وغاية عمله ألا وهو خلود الإنسان في مَعِيَّة الله وبالاتِّحاد فيه ومعه أي الاشتراك في حياته الأبديَّة. هذه الحياة الأبديَّة أُعْطِيَ للإنسان منذ ذلك الحين أن يشترك فيها ويتذوّقها قبل اكتمال الزَّمَن بالمجيء الثَّاني للمَسيح في المجد لِيَدين الأحياء والأموات، هذا التَّذَوُّق يُختَبَر في الكنيسة – جسد المسيح السّرّي بنعمة الرُّوح القدس الَّذي يمدُّ حضور يسوع في العالم بواسطة الكنيسة الَّتي هي حضور ملكوت الله في العالم…
صارت العنصرة هي خبرة تذوُّق ملكوت الله في العالم، وبالتَّالي هي تحقيق للقيامة في حياة المؤمنين بيسوع. لاقتناء هذه النِّعْمَة الإلهيَّة العَنصريَّة على المؤن أنْ يَحيا في التَّوبة أي الموت عن إنسانه القديم المستعبَد للخطيئة والأهْوَاء لِيَقُوم إلى حياةٍ جديدةٍ بالنِّعْمَة مِنْ خِلال تغيير الذِّهن وتقديم الحياة “ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ” من خلال طاعة الكلمة الإلهيَّة ووَصِيَّة المسيح أي المحبَّة الَّتي “تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَحْسِدُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ، وَلاَ تَنْتَفِخُ، وَلاَ تُقَبِّحُ، وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا، وَلاَ تَحْتَدُّ، وَلاَ تَظُنُّ السُّوءَ، وَلاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ، وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَدًا” (1 كو 13: 4 – 8). محبَّةُ الله هذه ومحبَّة القريب هي طريق التَّوْبَة وتحقيقها والغَلَبَة على الشِّرّير والمـَوْت وقُوَّة القيامة وخبرة النَّعْمَة وتذوُّق ملكوت الدَّهر الآتي… إنّها عمل الله المستَمِرّ فينا بخَلْقِنا جُدُدًا على الدَّوَام بنعمته الإلهيَّة…
ومَنْ يُحبّ الله يعمل عمل الله…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما