عظة البطريرك يوحنا العاشر
في رأس السنة الميلادية، الكاتدرائية المريمية بدمشق، ١ كانون الثاني ٢٠٢١
أيها الأحبة،
بعيون تترجى طفل المغارة “إله السلام وأبا المراحم” مستلقياً في مزود، ندخل عامنا الجديد سائلين عون الله ورأفته. بعيون تتلمّس نور وجه يسوع وسط دجى مغارة دنيانا، نتأمل المسيح الإله ونقول له: تسلّم ربي دفّة عيشنا وقدها وسط كل فرح وترح وامخر عباب هذه الدنيا ورَسِّ قلوبنا في هدوء مينائك لتتأملك رباً وإلهاً وتنشد سبح الملائكة: “المجد لله في العلاء وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة”.
نفتتح السنة الجديدة بالصلاة لنذكر أنفسنا أولاً أننا من معيَّة ذاك القدوس الذي أوجد الدنيا بكلمة أمره وأوجد الإنسان بنفخة روحه. نفتتحها بالصلاة والصلاةُ ترجمةٌ للرجاء الذي زرعه القدوس العلي في فطرةِ كلٍّ منا. والرجاء ينبع أولاً وأخيراً من داخل النفس رغم كل ما تواجه من قساوة. ونحن كمسيحيين أنطاكيين ومنذ فجر التاريخ مسمَّرون على الرجاء ومسمِّرون به كل صعاب الدنيا وأوبئتها وقلاقلها وحروبها لأننا من عجنة أولئك الذين تكنّوا، ومنذ ألفي عام، أولاً باسم المسيح في أنطاكية.
نفتتح السنة الجديدة والوباء يضرب من أقاصي الأرض إلى أقاصيها. وأمام هول المشهد تحني البشرية النازفة قلبها وكيانها ضارعةً إلى سيد الحياة والموت أن يرأف بجبلته. تحني البشرية قلبها أمام الوباء الحاضر الذي مضى ليؤكد أن البشر سواسية رغم كل اختلاف ديناً، حضارةً، جنسيةً، لغةً، جغرافية، جنساً، عرقاً ولوناً. تترنّح البشرية أمام الجائحة التي مضت، رغم مرارتها، لتقول إننا جميعاً كبشر ركاب قاربٍ واحد وضعه الله وسط موج الكرة الزرقاء. أتى الوباء الحاضر لينخس ضمير من ينسى أو يتناسى أننا نتقاسم شيئاً من مصيرٍ واحدٍ على هذه البسيطة. أتى الوباء ليذكر، ورغم كل مرارته، أن البشر مدعوون للتسابق في التكاتف في مواجهة كل خطر لا إلى التسلح والاقتتال المر والعنف والإرهاب. لقد حشت البشرية بطون الأرض سلاحاً من كل نوع ووصلت في بعض الأحيان إلى التفنن في التمترس خلف الإيديولوجيات وترجمت كل هذا حروباً وقلاقل واضطرابات تآكلتها. نصلي أن يكون الوباء الحاضر، الذي نسأل الله أن يشفق على جبلته ويزيله سريعاً، نصلي أن يكون ولو مجرد صدمةٍ إيجابية تستفيق منها البشرية من منطق التعادي إلى منطق التكاتف، من منطق المواجهة إلى منطق اللقيا، من منطق الاستقواء على الغير إلى منطق التعاضد، من منطق تأليه الفكر الذي يسابق كل شيء إلى منطق تعقُّلِ المبروء أمام جلال الباري، من منطق التهافت إلى التسلح للفتك بالآخر إلى منطق التسلح بالآخر للنهوض معاً ولمواجهة حلاوة الدنيا ومرها بسلام القدوس وحلاوة خيريته.
في رأس السنة الميلادية نصلي من أجل السلام في سوريا. نصلي من أجل سوريا التي عانت مرارة الحرب ومرارة التهجير والإرهاب والعنف. نصلي من أجل هذا البلد الذي يرزح تحت وطأة المصالح ويدفع من حياة أبنائه فقراً وبؤساً وحصاراً اقتصادياً. نصلي من أجل الأم الثكلى والأخ والأب الملتاع لفقدان أحبةٍ جارت عليهم قسوة الزمن الحاضر. نصلي من أجل وحدة ترابه. نصلي ونعمل من أجل تخفيف وطأة الدمار التي ما لبثت تظهر هجرةً مرةً. لقد تاقت سوريا إلى أيام سلامها. ومن حقها ومن حق إنسانها أن يعيش بأمان في أرض الأجداد. نصلي من أجل أن تعود سوريا، وهي عائدة بإذنه تعالى، إلى سابق عهد سلامها. وندعو الأسرة الدولية إلى الرفع الفوري للعقوبات الاقتصادية وللحصار الاقتصادي الآثم الذي لا يستهدف إلا شعباً أراد العيش بكرامة.
في رأس السنة الميلادية، نصلي من أجل لبنان والاستقرار في لبنان. نصلي من أجل شعبنا في لبنان الذي يرزح تحت الضائقة المادية وتحت وطأة انفجار مرفأ بيروت. وندعو من أجل تشكيل الحكومة اللبنانية بأسرع وقت وكما ينص الدستور بعيداً عن منطق التحاصص والاقتسام وذلك رأفةً بالإنسان الذي يرزح تحت شبح وواقع انهيار العملة الوطنية. الكل ينتظر، وعلى رأسهم أهالي وذوو المتوفين والمتضررين، ولهم الحق بذلك، ما ستسفر عنه التحقيقات في ملف المرفأ وفي الملف الاقتصادي عامة. ومن هنا الدور المحوري للقضاء وللهيئات المختصة، بعيداً عن التسييس وعن التعاطي بمنطق النكاية، في الكشف عن ملابسات ما حصل سواء بالمرفأ أم بالمال العام وتفعيل منطق المحاسبة سواسيةً وعلى الجميع.
كمسيحيين في هذه الأرض المشرقية، لم نكن يوماً هواة هجرةٍ ولم نكن أيضاً رواد تقوقع. لنا دورنا التاريخي والمحوري في هذا الشرق. نقول هذا وعيننا على أبنائنا الذي هاجروا إلى كل مكان وعيننا وجهدنا مع وعلى أبنائنا الذين نبقى وإياهم في هذا الشرق. نقوله ونضع برسم العالم كله وسائر حكوماته وسفاراته معادلةً هي أوفر بكثير على جيوب اقتصاد الدول وعلى جيوب مواطنيها. إن كلفة استقبال المهاجرين، أو بالأحرى أبنائنا المهجّرين، وضريبة احتوائهم في مجتمعات غريبة عنهم لأبهظ بكثير من فاتورة حروب وصراعات وتصفيةِ حسابات على أرض الشرق الأوسط. رسخوا السلام في أرضنا، هذا جلّ ما نرجو.
نعيّد اليوم لميلاد المسيح بالجسد، وفي القلب غصة المخطوفين كل المخطوفين ومنهم أخوانا مطرانا حلب يوحنا إبراهيم وبولس يازجي المخطوفان منذ نيسان 2013 وسط صمتٍ دوليٍّ مستنكر ومشجوب. نصلي جميعاً من أجل كشف ملابسات هذا الملف ووضع خواتيمه المرجوة ونضم قلوبنا إلى قلب الرعية العزيزة في حلب التي تنتظر كلمة رجاء بخصوص راعييها المطرانين اللذين لم يكونا إلا راية سلامٍ ومصالحةٍ وسط أزيز الضغائن والحروب.
صلاتنا اليوم من أجل الجولان المحتل بأهله الطيبين الصامدين. صلاتنا من أجل أهلنا الصامدين في كل أرض محتلة. دعاؤنا من أجل فلسطين وشعب فلسطين. صلاتنا من أجل بيت لحم التي استقبلت يسوع بالجسد. صلاتنا من أجل القدس الشريف التي عرفته متألماً وقائماً من بين الأموات، والتي كانت وستبقى عاصمة فلسطين ومحجة القلوب إلى مراحم الله أبي الأنوار رب السماء والأرض.
صلاتنا من أجل العراق الجريح ومن أجل كل بقعة من هذا الشرق ودعاؤنا نرفعه من أجل السلام في العالم أجمع.
الشكر للإعلام المرئي والمسموع الذي نقل هذا القداس. إنّي أخص بالشكر إذاعة دمشق التي اعتادت ومنذ أكثر من خمسين عاماً نقل هذا القداس من مريمية الشام. كما أشكر أيضاً راديو صوت النعمة الذي نقل من دمشق صوت سلامنا سبحاً لرب السموات وسكبه في المسامع والقلوب.
ولأبنائنا في الكرسي الأنطاكي في الوطن وفي بلاد الانتشار طيبُ محبّةٍ من مزود المحبة وبركةٌ رسوليةٌ من كنيسة الرسولين بطرس وبولس مؤسّسَي كرسي أنطاكية الرسولي. بارككم الله جميعاً وأجزل عليكم من بركاته السماوية.
في مطلع العام الجديد، ندنو من الطفل الإلهي يسوع المسيح سيد الحياة والموت ونبع الرجاء والمحبة ونسأله أن يرأف بعالمه. نسأله الرحمة الإلهية والملكوت السماوي لكل من غادرنا إلى لقيا وجهه القدوس في العام المنصرم. نسأله أن يرفع عن عالمه الوباء الحاضر ويمسح بتعزيته وأشفيته المرضى والمصابين. نسأله من أجل الجنود المجهولين، الطواقم الطبية والخدماتية. نسألك يا رب الرحمة والرأفات أن تضع رجاءك مقوداً لحياتنا ويكون إنجيلك دفةً لسبيلنا لتُولد أنت في مغارة قلبنا فنرنمَ لك بشفاه القلوب والأفواه:
أشرَقَتْ شمس الكمال فاشكروا الفادي الأمين
قد محا ليل الضلال فاحمدوه كل حين
على رجاء أن تحمل السنة الجديدة كل خير ومحبة، آمين.