أيها الراحل الكبير،
يصح فيك كلام بولس الرسول إلى تلميذه تيموثاوس: “قد جاهدتُ الجهاد الحسن وأكملت السعي وحفظت الإيمان. وأخيراً قد وُضع لي إكليل البرّ” . وأنت ماثلٌ لدى الحبيب ولسان حالك؛ ها حياتي يا رب “جواباً حسناً” أمام منبرك.
أيها الأحبةـ
يسبقنا اليوم إلى الملقى الأبدي المطران اسبيريدون خوري ذاك الوجه الوديع الذي طبع زحلة على مدى أكثر من خمسين عاماً بالوداعة والطيبة. نودع اليوم هامةً وقورة من أنطاكية العظمى بشهادة إيمانها. نودع اليوم عميد مطارنتنا الذي بذل من قلبه ليتمجد يسوع المسيح في قلوب أبنائه وفي كيانهم. غير أن عزاءنا يكمن في أننا وإياه على ملقى وجه الحبيب مقيمون في الرجاء وراسخون فيه.
عزاؤنا في هذا الرجل أنه انعجن بحب ربّه فقلب كيانه ناراً لاهبةً بمخافته وبتُقاه وبوداعةٍ لم تهَب يوماً درب آلامٍ وما أكثرها. نذكره اليوم والذكرى تليق بمن أعطى الروح والكيان لخدمة يسوع المسيح رباً مصلوباً، على المحبة، كما يقول بولس الرسول.
أيها الراحل الكبير في وداعته والبليغ في صمته
تودعنا اليوم وأنت في شيخوخة مثمرة وفي أسقفيةٍ صالحة على مثال شفيعك القديس اسبيريدون ذاك الراعي البسيط والمحب والساعي في إثر رعيته. تودعنا إلى كنف ذاك الفخاري الخالق الأعظم بارئ السموات والأرض. تودعنا بعدما تمثلت شفيعك القديس اسبيريدون فأكل الدرب من حذائك ومن قدميك وأنت تسعى وتجهد في إثر الرعية الموكلة إليك لتوردها منابع الخلاص.
وإذ نواريك اليوم في ثرى قلوبنا وكياننا، يطيب لنا أن نذكر شيئاً مما عشتَه ههنا على الأرض لتستدرّ به مراحم العلي. نذكرك يا سيدنا ونذكر بينو القرية العكارية التي صبغَتك بطيبتها وأصالتها حتى في المهجر الذي وُلدتَ فيه حاملاً ككثيرين وهج وأصالة هذا الشرق إلى البرازيل. تذكرك كنيسة القديس ثيودوروس في بينو مرتلاً فيها. ويذكرك البلمند بإكليريكيته الشهيرة طالباً للعلم الإلهي في أواخر الثلاثينيات. تذكرك دمشق ودارها البطريركية وآسيّتها الشهيرة التي تربى على عبيرها طلاب العلم في ذاك الجيل. تذكرك معلولا بفجها الصخري وديرها الشهير. وتذكرك أيضاً حمص بغسانيّتها الأرثوذكسية متلمساً علوم الدنيا والكهنوت. ومن حمص تحط ذكراك في عاصمة الأنوار في باريس التي قصدتها طالباً للاهوت في معهد القديس سرجيوس. ومن المعهد الباريسي تحط رحال خدمتك في البلمند من جديد مديراً لإكليريكيته بأمر البطريرك المثلث الرحمة ألكسندروس الثالث طحان. ومن هناك أيضاً، تعود بك دفة الرعاية إلى أبرشيتك الأصل عكار، وإلى وادي النصارى ومرمريتا بالتحديد. تذكرك يا سيدنا كنيسة رقاد العذراء في الإسكندرية عندما حللت فيها راعياً لكنيسة “الشوام أو العرب” بحسب مقولة الإخوة المصريين. وتذكرك أيضاً أبرشية طرابلس وكيلاً مساعداً للمثلث الرحمة الياس قربان في أواسط الستينات. ولعل من مصادفة الزمن أن يكون اليوم 17 أيلول الذي نودعك فيه هو اليوم ذاته الذي توجّهَتْ فيه إليك أنظار أحبار الكرسي الأنطاكي لترعى هذه الأبرشية أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما بعيد انتقال مطرانها نيفن سابا في مثل يومنا هذا أي 17 أيلول من العام 1966. وكأن هذا اليوم هو ختم قربان المحبة والعهد الذي كان بينك وبين زحلة بكل أبنائها. هذا شيء من حياة هذا الراقد الكبير قدمه بخوراً زكي العرف أمام منبر الله في خدمة كنيسة أنطاكية التي أحب وبذل من أجلها الحياة والكيان.
نذكر المطران اسبيريدون ونذكر بالخير والبركة خدمته المثمرة في هذه الأبرشية لنصف قرن قضاها في بنيان البشر والحجر. نذكره ركناً من أركان زحلة أبعد عنها وبالتعاون مع مطارنة زحلة شبح الحرب الأهلية ما أمكن. تذكرك هذه الأبرشية بكل بقاعها من الهرمل إلى بعلبك فالبقاع فعروسته زحلة التي ارتبطت بخدمتها لنصف قرن. وتذكر فيك أيضاً ذاك المتواضع الذي اعتبر دوماً أن الأسقفية هي أولاً وأخيراً خدمة ولم يأنف من أن يستعفي عن شيخوخة صالحةٍ مسلماً الوديعة لسيادة المطران أنطونيوس الصوري الذي شاءته العناية الإلهية من بعده على محراث المحبة والخدمة.
تذكرك أنطاكية المسيحية وأنت كبيرٌ من كبارها. تذكرك ببطاركتها الكبار ومطارنتها وسائر أبرشياتها. يذكرك لبنان الذي ينمو الصدّيق كأرزه وتذكرك سوريا وكل بقعة خدمْتَها وبثثت فيها شيئاً من روحك. يذكرك هذا الشرق المصلوب بإنسانه الذي يقاسي ويلات الحروب دماراً وتهجيراً وعنفاً وإرهاباً. يذكرك هذا الشرق الذي يرى القيامة من وراء الصليب.
أنقل إليك سلاماً قلبياً من سائر إخوتك في الأسقفية وأخص بالذكر منهم مطراني حلب يوحنا إبراهيم وبولس يازجي المخطوفين واللذين غيبتهما وتغيبهما عنا قسوة الزمن الحاضر وتحجر القلوب واللا اكتراث بما يخص هذا الملف المفتوح منذ أكثر من ست سنوات.
نثق بأنك تصلي من أجلنا ومن أجل لبنان والشرق. ونحن على اليقين أن رب القيامة لا بدّ ناظرٌ أتعابك. قل للمخلص إن الكرمة التي زرعتها يداه في أنطاكية تطلب دوماً من رب الحصاد العملة الصالحين وتسأله وهو الذي افتداها محبةً وتضحيةً أن يَنْداها بنعمته وبركته وصلاحه ورجائه الذي يمحق كل ضيق.
ونحن في موسم الصليب الكريم، نتأمله وننظر من ورائه عتبات القيامة قائلين:
المسيح قام، والموت تهاوى
المسيح قام والراقدون به على الوداعة يعبرون
المسيح قام وحيث يقوم فهناك يقوم خادمه
المسيح قام، حقاً قام.
ألا طيّب الله أرضاً حازت سيدنا اسبيريدون وعزّى قلوبكم جميعاً بنور القيامة المجيدة.