نشرة كنيستي- الأحد قبل عيد رفع الصًّليب- العدد 37
10 أيلول 2023
كلمة الرّاعي
عثرة الصَّليب
”فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّليب عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا
نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ“ (1 كو 1: 18)
العقل غير المؤمن يتعذَّب من الصَّليب لأنّ الصَّليب عنده غير منطقيّ، إذ المنطق عند الـبـشـر الَّذين لا يعرفون الله ”المحبَّة“ هو حماية النّفس من الألم وَلَوْ على حساب آلام الآخَرين، أمّا منطق الصَّليب فهو حمل الألم لأجل الآخَرين حُبًّا.
”مصلحة“ الإنسان بحسب الصَّليب هي أن يحبّ ويبذل لا أن يهتمّ براحته وأن ينغلق على ذاته وحاجاته وأنانيّته، لأنّ الغنى هو في العطاء وليس الأخذ، والمجد في الاتّضاع وليس التّكبّر، والفرح في البذل وليس الأخذ.
الصَّليب هو صلب للعالم في حياة المؤمن، أي هو خروجٌ طَوْعِيّ من منطق الدّنيا النّفعيّ ”المصلحجيّ“ وتَبَنٍّ لمنطق الإنجيل الَّذي يقول: ”مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَـــسِــــرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟“ (مت 16: 26).
مِنْ هنا، فالصَّليب عثرة للَّذين يظنّون أنّ الله هو إله حرب وبطش بالأعداء، أو أنّه إله العلم والفلسفة والحكمة الدَّهريَّة. الصَّليب هو رمز المحبَّة الإلهيَّة غير المَحدودة أو المَحصورة في قوالب أو أُطُر تنسجم مع منطق العالم، إنّه تدمير لكلّ منطق أو فلسفة أو نَهْج حياة مَبنيّ على الأنا…
* * *
مَنْ يَرفُض الصَّليب ومنطقه يَرفُض الخلاص الآتي بالحُبّ، ومَنْ يؤمن بالمسيح ربًّا وإلهًا يَصلب العالم الَّذي فيه بكلّ جوانبه الفكريَّة والعمليَّة. لِيَصير صليب المسيح خـــلاصًا لي يجب عليَّ أن أقبل سرّ ”إخلاء الذّات“ (Kénose—Κένωσις)، الَّذي حقَّقه الله في تجسّد ابنه الوحيد إذ ”أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ…“ (في 2: 7).
إذا كان ابن الله الوحيد، قد تنازل و ”وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّليب“ (في 2: 8) وهو الكامل، فَكَمْ بِالحَرِيّ علينا نحن البشـر الخطأة أن نتواضع هاربين من كبريائنا وأنانيّتنا وحبّنا للمجد الباطل ومِنْ طلب المديح ومِنَ الغضب وحبّ الانتقام والدَّينونة؟!…
* * *
أيّها الأحبَّاء، لا يمكن أن يسكن فينا بِرُّ الله ما لم نتطهَّر من العالم الَّذي فينا أي ما لم نتعرَّ من العالم بكلّ ما فيه مِنْ سقوط لنستحقّ أن نلبس برحمة الله ورأفته رداء النّعمة المفقود عند السّاقطين… فالإنسان في العالم مَسْبِيّ بالخطيئة، والمؤمن هو من يصارع ناموس الخطيئة في جسده ببِرِّ المسيح أي بقوّته. ولسان حال المؤمن ما قاله الرَّسُول بولس وهو أنّه يرى ”نَامُوسًا آخَرَ فِي أَعْضَائِي يُحَارِبُ نَامُوسَ ذِهْنِي، وَيَسْبِينِي إِلَى نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ الْكَائِنِ فِي أَعْضَائِي. وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هذَا الْمَوْتِ؟“ (رو 7: 23 و24).
المشكلة اليوم أنّ منطق العالم، حتّى عند بعض الَّذين يظنّون أنفسهم مؤمنين، لم يعد يرى في الإنسان سقوطًا وبُعدًا عن الله وعن وصاياه، لا بل صاروا يُحَوِّرون الوَصِيَّة لتنسجم مع سقوطهم وأهوائهم، ”لأَنَّ كَثِيرِينَ (…) هُمْ أَعْدَاءُ صَلِيبِ الْمَسِيحِ، الَّذِينَ نِهَايَتُهُمُ الْهَلاَكُ، الَّذِينَ إِلهُهُمْ بَطْنُهُمْ وَمَجْدُهُمْ فِي خِزْيِهِمِ، الَّذِينَ يَفْتَكِرُونَ فِي الأَرْضِيَّاتِ“ (في 3: 18 و19). صارت أهواء الخزي والهوان والحقارة لعالم اليوم مجدًا وشرفًا، وهذا إنْ دَلَّ على شيء فهو يدلّ على مدى الضَّلال الَّذي يعيش فيه إنسان اليوم، وهذا الضَّلال مصدره الشَّيطان وزَبانِيَّته، وكلّ من يوافقهم عبدٌ لإبليس وكافر بالحَقَّ الَّذي بالمسيح يسوع مخلّص العالم…
الرَّبُّ يأتي…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما