نشرة كنيستي- الأحد قبل عيد الظّهور الإلهيّ- العدد 1
02 كانون الثّاني 2022
كلمة الرَّاعي
عام جديد أم زمن جديد؟!…
ينتظر النّاس الجِدَّة من تغيُّر الأزمنة والأمكنة. لكن، هذا التّغيير ليس مضمونًا أنّه سيكون للأفضل. هذا هو المأزق الَّذي يخاف البشر أن يُفرَض عليهم، وكأنّ لا دور لهم في التّجديد الَّذي تحمله الأزمنة أو كأنّ الأقدار محتومة!… لذلك، ترى النّاس في ليلة رأس السّنة يطلبون معرفة الغد أو توقّعه بإشارات يتلقّفونها من هنا وهناك أو من عرّافين مُدَّعين معرفة المستَقْبَلَات… هذا كلّه ارتماء في أحضان إبليس ”الكذّاب وأبو الكذّاب“ (يو 8: 44) لأنّ الإنسان لا يريد أن يتحمَّل مسؤوليّة مصيره بل يريد أن يلقي باللّائمة على سيّد الأزمان والأكوان وخالقها أي الله. هذا أيضًا إمعان في السُّقوط من حقيقة الإنسان لأنّه أيضًا وأيضًا تشكيك بمحبّة الله لخليقته.
بسبب يأسهم وإحباطهم، بعامّة، يستشرف النّاس مستقبلهم ويتمنّونه أفضل من خلال الرّجوع إلى الوثنيّة، أدركوا ذلك أم لم يدركوا، حين يبنون خطط حياتهم ورؤاهم ومشاريعهم للعام المُقبل انطلاقًا ممّا يعيشونه في آخر يوم وآخر ساعات السّنة المنصرمة، فيلعبون ”الورق“ ويجرّبون ألعاب الحظّ ويشربون ويأكلون ويضحكون معتقدين أنّهم بهذه الطَّريقة يفتتحون السّنة الجديدة المقبلة بما هو لصالحهم… فهل يرى المؤمن المسألة هكذا أم له رؤية أخرى؟!…
* * *
حين يتعاطى الإنسانُ حياتَه والوجودَ من منطلقٍ نفسيّ دنيويّ ينتظر التّغيير والتّجدُّد من الخارج أي من الظّروف الّتي تحيط به ناظرًا فقط إلى ما هو من هذا العالم على أنّه كلّ الوجود. هذا التّغيير الَّذي يتعلّق بالزّمان والمكان، وإن حصل، لكنّه يبقى معرَّضًا للانهيار كونه مرتبط بما هو خارج الإنسان وبما هو آنيّ وظرفيّ إذ هو مؤسَّس على ما هو مادّيّ فقط.
لا شكّ أنّ الإنسان، بطبيعته، يطلب التّغيير لأنّه يبحث عن وجوده، ولأنَّه مخلوق على صورة الله، والصّورة لا ترتاح إلّا متى وجدت مثالها ومصدرها أي الله الَّذي هو الحياة اللّانهائيّة الَّذي فيه تستريح حين هو يرتاح فيها، ومن هنا توق الإنسان إلى الخلود أي الحياة الأبديّة. ما هي الحياة الأبديَّة؟ ”هذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ“ (يو 17: 3). عبثًا يطلب الإنسان الأمان والرَّاحة في الزّائلات لأنّها بطبيعتها غير مستقرّة ومتحوّلة ومتغيِّرة لأسباب وأسباب قد يكون للشّخص فيها دور أحيانًا وفي معظم الأحيان لا دور له. هذا يطرح على الشّخص سؤالًا جوهريًّا ووجوديًّا: كيف لي أن أكون فاعلًا فيما يختصّ وجودي وحياتي وسلامي وراحتي لأحصل على نتيجة لا تتغيَّر بسبب الظّروف المُحيقة بي والخارجة عنّي؟!…
* * *
”قَالَ الْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ: “هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيدًا!”. وَقَالَ لِيَ: “اكْتُبْ: فَإِنَّ هذِهِ الأَقْوَالَ صَادِقَةٌ وَأَمِينَةٌ“ (رؤيا يوحنا 21: 5). الجِدَّة الدّائمة تأتي من الله الَّذي هو الثّابت والأمين والمتحرِّكُ بالحبّ الإلهيّ حياةً لا نهاية لها نحو خليقته. هو المُتَّكَأُ وهو الحصن وهو مصدر الخيرات والبركات وهو الدّائم بحبّه لخليقته إن ابتعدوا عنه وإن اقتربوا منه إذ ”يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ“ (مت 5: 45). لا قيمة لتغيير في حياة الإنسان ما لم يكن منبعه الحبّ، إذ ما عدا ذلك تكون دوافعه أنانيّة ولا يجلب سلامًا إلى القلب ولا يؤسِّسُ لحياة جديدة. الجِدّة بالمعنى الإنسانيّ الأنطولوجيّ هي النّموّ في سرّ الإنسان بحسب الله أي التّقدّم في مشروع تحقيق مثال الله في صورته الّتي هي الإنسان. هذا يتحقَّق، بالنّسبة لنا كمؤمنين بسرّ التّجسّد وما تلاه سرّ تدبير الله، من خلال الاتّحاد بالمسيح والتّشبّه به بواسطة فعل روحه القدّوس فينا بمسيرتنا في عيش حبّنا له بطاعة وصاياه.
أيُّها الأحبّاء، نحن ندخل الزّمن الجديد وتجديد الزّمن حين نصير أبناء ”جيل التّجديد“ (مت 19: 28). لا تجديد إلّا بروح الرّبّ وبكلمته. فقط من يحيا بالكلمة والرّوح ويسجد لله ”بالرّوح والحقّ“ (يو 4: 23 و24) يعيش التّجدُّد الدّائم في كلّ لحظة وفي كلّ يوم وفي كلّ عمل وكلّ صلة وفي كلّ كلمة لأنّه يشرب من ”الماء الحيّ“ الَّذي ينبع فيه ليشرب منه الآخَرون لأنّ الرّبّ قال صراحةً ”مَنْ آمَنَ بِي، كَمَا قَالَ الْكِتَابُ، تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ“ (يو 7: 38). التّوبة هي ”جِدّة الحياة“ (رو 6: 4) وتحقيقها هو ”الخليقة الجديدة“ (2 كو 5: 17 وغل 6: 15). هذه هي مسيرتنا في تجديد الزّمن وفي عيش الزّمن الجديد باستمرار. كلّ لحظة توبة هي ولادة جديدة وبالتّالي هي تجديد لوجودنا ودخولنا في الزّمن واللَّحظة إلى الأبديّة إلى ملكوت السّماوات إلى الزّمن الجديد إلى اللّازمن.
”هَا مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ“ (لو 17: 21) إذا آمنَّا بالمسيح يسوع مخلِّصًا لنا ومصدرًا لكلّ خير وبركة وإذا ثابرنا على تجديد قلوبنا بالتّوبة لنكون أبناء الدّهر الآتي الَّذي أتى ويأتي الَّذي هو زمن الحياة المتجدِّدة باستمرار بمعرفة الله الّتي لا تنتهي بل تزداد فرحًا وحبًّا وسلامًا في سرّ شركة الثّالوث القدّوس له المجد إلى أبد الدّاهرين. آمين.
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما