نشرة كنيستي- الأحد (10) بعد العنصرة- العدد 35
01 أيلول 2024
كلمة الرَّاعي
طالبو الله
”اَلرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ أَشْرَفَ عَلَى بَنِي الْبَشَرِ، لِيَنْظُرَ:
هَلْ مِنْ فَاهِمٍ طَالِبِ اللهِ؟“ (مز 14: 2)
ماذا يطلب الإنسان من الحياة؟ لماذا يحيا؟ ما هو هدف وجوده؟ كيف يحقِّق غاية حياته؟…
أسئلة كثيرة تطرحها الحياة علينا وما لم نجد لها أجوبة شافية تبقى حياتنا عقيمة وبلا معنى وجوديّ.
بعامّة، يعيش النّاس مَقودين من الَّذين يتحكّمون بفلسفة الوجود ويطوّعونها لمآربهم، أي البشر يخضعون لما يُملى عليهم من حكام هذا الدّهر المَخفيِّين الَّذين يخطّطون لما فيه مصالحهم الكونيّة أي أن يحكموا الخليقة كلّها ويستعبدوها. هؤلاء هم أبناء الشّيطان الَّذين يريدون تدمير الإنسان وتشويهه، لأنّهم فقط حينها يسيطرون عليه.
في هذا العالم نحن نعيش حربًا وجوديَّة كيانيّة، وحربنا هي في الحقيقة ضدّ من يريدون أن يسبونا إلى بابل الأهواء وإلى مصر العبوديّة والسُّخرْةَ. الإنسان بسهولة يسقط في عبادة اللَّذّة، وكلّ فلسفة الحياة في أيّامنا مبنيّة على اقتناء الملذّات وسهولة الحصول عليها. ليست الغاية من رفاه العيش والسّعي اللّاهث وراء الشّهوات فرح الإنسان بل أَسْرُهُ استهلاكيًّا لكي يعيش حياته راكضًا وراء ما لن يدركه، فيبقى مسلوبَ الإرادة تجاه من يقوده في طرق اللَّهو والاستمتاع واضعًا كلّ حياته ومقتنياته ومشاريعه لأجل تحقيق هذا الهدف.
* * *
”اخرُجوا من بينِهم واعتَزِلوا، يقولُ الرَّبُّ ولا تَمَسُّوا نَجِسًا، فأقبَلُكم وأكونُ لكم أبًا وتكونون أنتمُ لي بَنِينَ وبَناتٍ يقولُ الرَّبُّ القَدير“ (2 كو 6: 17—18).
المؤمن غريب في هذا العالم، لأنّه يعرف أنّ طريق الحياة آخَر عمّا يُسَوَّق في هذه الدّنيا. النّاس تطلب الطّعام والشّراب واللّباس، والمديح والسّلطة والمال، واللَّذة وراحةَ الكسلِ ورفاه العيش، والمقتنيات من البيوت والقصور والأراضي والذّهب والجواهر، والعُجب بسلطان الجمال والعلم… هذا كلّه يطلبه أهل الدّنيا على أنّه هو الحياة وغايتها ومعنى وجودها.
لكنّ الجامعة يقول: ”بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ. (…) الْعَيْنُ لاَ تَشْبَعُ مِنَ النَّظَرِ، وَالأُذُنُ لاَ تَمْتَلِئُ مِنَ السَّمْعِ. مَا كَانَ فَهُوَ مَا يَكُونُ، وَالَّذِي صُنِعَ فَهُوَ الَّذِي يُصْنَعُ، فَلَيْسَ تَحْتَ الشَّمْسِ جَدِيدٌ“ (جا 1: 2 و8—9).
جدَّة الحياة الّتي يبحث عنها الإنسان بكثرة أعماله واختراعاته لإشباع رغائبه النّفسانيّة والجسدانيّة لن يجدها طالما هو بعيد عن مصدر وجوده الله اللّامتناهي وغير المحدود. روح الرّبّ هو الرّوح الصَّانع الحياة وهو مصدر كلّ تجدُّد في الخليقة ومصدر كلّ معرفة لامحدودة لله اللّامحدود وغير المُدرَك.
* * *
أيُّها الأحبّاء، ”فلنُطَهِّر أنفُسَنا مِنْ كُلِّ أدناسِ الجسَدِ والرُّوحِ ونكْمِلِ القداسةَ بمَخافةِ الله“ (2 كو 7: 1).
فقط في القداسة نحقِّق ذواتنا ونصير إلى الحقيقة الّتي خُلِقنا لأجلها. مسيرتنا إلى الحقيقة السّرمديَّة لله طريقها التّطهُّر من كلِّ ما يوسِّخ كياننا من الدّاخل والخارج، وهذا يتمّ بتطهير الذّهن والقلب. لذا علينا أن نحارب ناموس الخطيئة الَّذي يستعبدنا. يوضح لنا الرّسول بولس الحرب الدّائرة فينا فيقول: ”وَلكِنِّي أَرَى نَامُوسًا آخَرَ فِي أَعْضَائِي يُحَارِبُ نَامُوسَ ذِهْنِي، وَيَسْبِينِي إِلَى نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ الْكَائِنِ فِي أَعْضَائِي“ (رو 7: 23).
المؤمن بالمسيح يسوع ليس له فكر آخر في ذهنه سوى ”فكر المسيح“، وهو يحصل على هذه النّعمة متى عاش ما يوصي به الرّسول بولس: ”فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ. وَلاَ تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ“ (رو 12: 1—2).
البداية تأتي من الإيمان بالمسيح يسوع ابن الله المخلِّص لنا على الصّليب، هذا الإيمان يمل كياننا بالمحبّة للَّذي بذل نفسه لأجلنا، فنقتدي به سالكين بوصيّته فنقدّم حياتنا له بحمل صليب التّخلِّي عن ما يرضينا لنرضيه في خدمة الإنسان بتوبتنا عن ذواتنا، فنعبده بالحقّ في البِرِّ الَّذي بكلمته المُحيية الّتي تُجدِّد أذهاننا وأفكارنا وقلوبنا بنور النّعمة الإلهيَّة فنتغيَّر من الخارج والدّاخل بروحه القدّوس الَّذي يكشف لنا إرادته وأعماله الصّالحة فينا لكي نعملها ونمجّد اسمه القدُّوس إذ نقتني سرّ الحبّ الإلهيّ فينا مصدرًا لكلّ فرح وسلام ولطف ووداعة واتّضاع وشركة ومعرفة ونور وقوّة…
ومن له أذنان للسّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما