نشرة كنيستي- الأحد (3) من الصَّوم- العدد 12
19 آذار 2023
كلمة الرّاعي
صليب الخلاص
“فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ” (1 كو 1: 18)
عقاب الإعدام بالصَّلْب هو مِنْ أقسى الوسائل وأفظعها، وقد اخترعه الفرس وأخذه عنهم الرُّومان. هذا العقاب كان حكم أكثر المجرمين إجرامًا. ما هي جريمة يسوع المسيح ليُعَلَّق عليه؟!… أنّه كان بارًّا هزَّ عروش المتسلِّطين من رجال الدّنيا والدِّين. هم لم يكونوا يعرفون أنّه “الله” و “الملك”، مع أنّه قال لهم، ولكنّهم لم يريدوا أن يصدّقوا لأنّهم أرادوا قتل الله إذ “أحبُّوا الظّلمة أكثر من النّور”.
فيلسوف من القرن التّاسع عشر، نيتشه، قال إنَّ الله مات. تَوْق النّاس أنْ يُميتوا الله لأنّ وجوده يُبَكِّتهم على خطاياهم. وإلَّا يخترعون آلهة تُشبع لهم شهواتهم وأهواءهم. الإنسان ميّال إلى القتل، إلى إبادة الآخَر المختلف عنه، وهذا ينطبق أيضًا على موقفه من الله. حركتان في نفس الإنسان تتحكّمان به: العنف واللَّذَّة. العنف مصدره الغضب الكامن في الكيان والمُغَذَّى من الأنانيَّة والكبرياء، واللَّذَّة مصدرها اللَّامعنى في الحياة.
عالم اليوم يُغَذِّي في الإنسان المعاصر هاتَيْن الحَرَكَتَيْن في النّفس، ولذلك يصير اتّباع المسيح وحمل صليب حبّه جنونًا مُطبقًا في نظر أهل الدُّنيا الَّذين أُسِروا بمنطق عالم الاستهلاك والهلاك والحضارة الزّائفة الخائفة من الحبّ.
* * *
هناك من يريد من الله أن يُظهر ذاته بقوّته وسحق الآخَر، وهناك من يريد أن يكون الله داخل دائرة العلم والمعرفة. ومع أنّ الله كلِّيُّ القدرة والمعرفة إلّا أنّه لا يتطابق مع أوهام البشر عنه أو رغباتهم منه.
الإيمان صليب لطالبي المعجزات والفلسفة في آن معًا. فالفئة الأولى تطلب الخوارق لتؤمن ولتؤكِّد وجودها من خلال إله يتمِّم لها نظرتها بالتَّفَوُّق على الآخرين، والفئة الثَّانية، وهي لا تختلف عن الأولى إلّا بالوسيلة، فهي أيضًا تطلب الفلسفة الفائقة لتؤكِّد وجودها من خلال تفوّقها بسبر الواقع المنظور وغير المنظور بالعقل.
إلهنا المصلوب يدمِّر هاتين الحركتين في السَّعي للقبض عليه وتحديده. هو لا يستجيب لمنطق القوَّة بحسب منظر النَّاس ولا لمفهوم الحكمة والفلسفة بحسب المفكِّرين والعلماء، إنّه إله المحبّة الإلهيّة الّتي تجلّت بكامل قوّتها في قمّة الضُّعف وفي كلّ مجدها في كلّيّة الذّل وبلانهائيّة حنانها في غلبة الحقد والحسد الظّاهرة. كذلك، حكمة الله الفائقة على كلّ عقل تجلَّت في تجهيل حكمة العالم، ومعرفة الله استُعلِنَت في ظلمة العدالة البشريّة. هذا كلّه تمّ على الصّليب…
* * *
أيُّها الأحبّاء، نحن أبناء المصلوب نكون أو لا نكون. أنا مصلوب بمحبوبيّتي للرّبّ في طاعة وصيّته إذًا أنا كائن. بالصَّليب نستمدُّ وجودنا السَّرمديّ في المسيح يسوع مع الله في شركة الثّالوث القدّوس، “مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي” (غل 2: 20).
أنا أُصلب مع المسيح حين أطيعه بالكلّيّة أي لا يعود لي مشيئة سوى مشيئته. حينها أنا لا أعود أحيا لنفسي بل للمسيح “الَّذي أحبّني وأَسْلَم نفسه لأجلي”. لا مسيحيّة دون صليب، ولا قداسة دون مصلوبيّة، ولا مصلوبيّة دون محبّة لله والقريب.
الفرح يأتي من الحزن، والحياة من الموت. هذا هو صليب الحبّ الإلهيّ للبشر الَّذي وُهبنا في المسيح أن نشترك فيه لنغلب العالم وما في العالم، ولنلج ملكوت الدّهر الآتي بالموت على الصَّليب عن الدّهر الحاضر، إذ نعلم “أَنْ لَيْسَ لَنَا هُنَا مَدِينَةٌ بَاقِيَةٌ، لكِنَّنَا نَطْلُبُ الْعَتِيدَةَ” (عب 13: 14).
خبرة الحياة الجديدة نعرفها بالتّوبة الصّادقة، لأنّنا بها نعبر من الموت إلى الحياة ومن العتاقة إلى الجدَّة ومن الحزن إلى الفرح ومن الاضطراب والقلق إلى السّلام والطّمأنينة. الصّليب هو تغيير كياني يتمّ بمشيئتنا إذ نقبل بشجاعة ألم التّحرُّر من مشيئتنا لنقول للرّبّ ونواجه الموت فنقول مع المسيح: “يَا أَبَتَاهُ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ إِلَّا أَنْ أَشْرَبَهَا، فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ” (مت 26: 42).حين نسلّم كلّ حياتنا ومشيئتنا لمن بذل نفسه لأجلنا تأتي النّعمة الإلهيّة وتسكن فينا وتغيّر طبيعتنا وتطهّرها إذ تتنقَّى الحواس الرّوحيّة ويحصل الإنسان على قوّة من الله تساعده على عيش الصّليب كقوّة قياميَّة لحياة جديدة على صورة المسيح الغالب…
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما