Menu Close

نشرة كنيستي- أحد السُّجود للصَّليب- العدد 12

23 آذار 2025

كلمة الرّاعي 

صليبُ التَّجَسُّدِ

“لِي أَنَا أَصْغَرَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، أُعْطِيَتْ هذِهِ النِّعْمَةُ، أَنْ أُبَشِّرَ بَيْنَ الأُمَمِ بِغِنَى الْمَسِيحِ الَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى،

وَأُنِيرَ الْجَمِيعَ فِي مَا هُوَ شَرِكَةُ السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ فِي اللهِ خَالِقِ الْجَمِيعِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ” (أف 3: 8 – 9)

عيد البشارة هو عيد التَّجسُّد، لأنّ ابن الله صار ابن البَتُول عند قبول مريم الفتاة طاعة الكلمة المرسَلَة إليها بالملاك جبرائيل، إذْ قالت له: “هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ” (لو 1: 38). مريم قبلت ببساطة كلمة الله لأنّها اعتادت على طاعتها، إذْ تَرَبَّتْ على هذه الطَّاعة، رغم أنَّ ما تلقتْه من كلمة لا يقبله عقل ولا يمكن تصديقه على صعيدَيْن، الأوّل أنّه لا يمكن لفتاة أنْ تَحبل دون مُباشَرَة رجلٍ، وثانيًا، كيف يمكن لله أن يكون له ابن مولود منه وهذا الابن سيصير إنسانًا وسيَسْكُن في أحشاء فتاة كَجَنين؟!… هذان الصَّعيدان صليب للعقل والعُقَلاء وحكماء هذا الدَّهر، ولكن أعطانا الله صليب ابنه ” لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً!” (1 كو 1: 23). مَن يطلبون المعجزات والعجائب يرفضون أنْ يَقبلوا بهذا التَّنازُل الإلهيّ غير المدْرَك والَّذي لا يُمكن سَبْرَ غَوْرِهِ فيَصير لهم عثرة، وأصحاب العقول والحكمة والعلوم لا يستطيعون أن يقبلوا ما يتخطّى حدودهم البشريّة والتَّحليليَّة والمنطقيَّة فيَسقُطون في الجهالة أمام قدرة الله غير المحدودة …

*             *             *

هذا الأحد نعَيِّد للسُّجود للصَّليب المقدَّس، وهو الأحد الثَّالث مِنَ الصَّوْم الكبير. وُضع هذا التَّعييد في انتصاف الصَّوْم لتقول لنا الكنيسة حقيقةً أنَّ الصَّليب هو دائمًا في وسط علاقتنا مع الله وحياتنا وجهادنا. لا خلاص من دُون حمل الصَّليب وراء يسوع المسيح وحُبًّا به. الإنسان منَّا، بعامَّةٍ، يهرب من الصَّليب أي من الجهد والتَّضحية والبَذْل الَّذين تطلبهم المحبَّة لله وللقريب. طبعًا، الصَّليب اتّضاع وإخلاء للذَّات، وهذا تعلُّم دائم من خلال عَيْشِ الوَصِيَّة الإلهيّة. في كُلِّ حينٍ أعيش الصَّليب مِنْ خِلال خياراتي الَّتي هي مشيئتي، فإن اخترت طاعة الله أُميتُ مشيئتي الَّتي تعارض الوَصيَّة فأحْيَا بنعمته في عَيْشِ كلمته، وإنْ اخترتُ مشيئتي صارت لي وصيّته صليبُ ألمٍ ودينونةٍ لأنّي اخترتُ أنْ أكون عامِلًا ضِدَّ الله، ليس لأنَّ الرَّبَّ يُرسِل لي ألمًا بل لأنَّ السُّلوك في ما يتعارض أو ما لا ينسجم مع وصيّة الله لا يأتي منه خير إذْ كلمة الله هي كلمة الحياة والخير الـمُطْلَقَيْن.

صليب الخلاص هو صليب المسيح وصليب اتّباع المسيح، وصليب الموت الرُّوحيّ هو كلّ خَيار خارج وصيّة الله. الصَّليب وَضَعَتْهُ الكنيسة في وسْط الصَّوْم لتشديدنا بقوّته القياميّة في المسيح، بنعمة الغلبة به على إبليس والخطيئة والموت…

*             *             *

أيُّها الأحبّاء، إيماننا يتخطّى العقل والمنطق وبهذا هو صليبٌ وعثرةٌ لهما، ولكنَّه هو أصلُ المنطق والعقل إذا عرفنا أنّ “الله محبّة” (1 يو 4: 8 و16). هذه المعرفة لله لم نتسلّمها كفلسفةٍ ولا كعَجيبةٍ أو معجزة، بل كُشِفَت لنا في تجسُّد ابن الله واستعلان الله لنا آبًا وابنًا وروحًا قدُّوسًا، ثالوثًا في وحدانيَّة ووحدانيّة في ثالوث. عرفنا الله محبّةً لأنّه أرسل ابنه الوحيد ليُشاركنا في ضعتنا حتّى يمنحنا مجده، ليَذُوق مواتيّتنا ويهبنا أبديّته، ليختبر بؤسنا ويَحبُونا بفرحه… لقد أخذ كلّ ضعفاتنا على عاتقه وقَبِلَ أن يتضّع حتّى النِّهاية بإخلاء ذاته “آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّليب” (في 2: 7 و8). هذا عمله لا لشيءٍ إلَّا لأنّه يحبّنا إلى ما لا نهاية ويريد أن يحرَّرنا من سلطان الموت الَّذي يتحكّم بكلّ وجودنا بشكلٍ سِرّيّ وفي لَاوَعْيِنَا.

ليكن هذا الصَّوْم لنا، يا أحبّة، مسيرةً إلى النُّور والحُرِّيَّة والنَّقاوة مِنْ خِلال عيشنا للكلمة الإلهيَّة في الصَّلاة والصَّوْم والخدمة والعَطاء غير المشروط، لأنَّ سِرَّ الله “المكتوم منذ الدُّهور” أُعطِيَ لنا أنْ نَعْرِفَه في المسيح يسوع وأنْ نَدْخُلَ فيه في شِرْكَةٍ مع الله الاب بابنه في روحه القدُّوس بسرّ النِّعْمَة الإلهيَّة غير المخلوقة الَّتي تجعلنا مُشابِهين لله في صفاته ومشاركين له في سِرِّ حياته الَّتي هي حركة الحُبِّ الإلهيِّ السَّرمديَّة المُنبِعَة فينا فَرَحًا وسلامًا ونورًا أبديًّا نذوقهم منذ الآن كعربون لملكوت الدَّهْرِ الآتي…

هذه ثمرة صليب المسيح، وهذه ثِمار حَمْلِنَا صليب الحُبّ للثَّالوث القُدُّوس في طاعة الله الآب بقوّة الابن في نعمة الرُّوح القدس…

ومن له أذُنان للسَّمع فليسمع…

+ أنطونيوس

متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما

مواضيع ذات صلة