نشرة كنيستي- الأحد (22) بعد العنصرة- العدد 47
الأحد 24 تشرين الثّاني
كلمة الرّاعي
سِماتُ الرَّبِّ يَسوع
يَطلُبُ الإنسانُ الكمالَ في حياتِهِ، في كلِّ شيءٍ، ولكنَّ سعيَهُ هذا غالبًا ما يرتبطُ بالفانياتِ. فمَثَلًا يَطلُبُ الإنسانُ جَمالَ الجَسَدِ وصِحَّتَهُ الكامِلَةَ، الذَّكاءَ والتَّفَوُّقَ، أفضَلَ الطَّعامِ واللِّباسِ والمـَسكَنِ، إلخ. هذِهِ كُلُّها لَيسَت شَرًّا بَل عَطيَّةٌ صالِحَةٌ مِنَ اللهِ للإنسانِ. المـُشكِلَةُ هي حينَ تَصيرُ هذِهِ جَوهرَ حياةِ الإنسانِ لأنَّهُ حينَها، وفي مُعظَمِ الأحيانِ، يَستَبدِلُ الإنسانُ الغِنَى الإلهيَّ والحياةَ الأَبديَّةَ بِهذِهِ العَطايا الرَّائِعَةَ مِنَ اللهِ، أي يَفرَحُ بِالعَطيَّةِ ويَكتَفي بِها ويَنسَى المـُعطي…
القِدِّيسونَ الَّذينَ كانَت لَدَيهِم هذِهِ المادِّيَّاتُ لَم تَحجُبِ اللهَ عَنهُم بَل جَعلَتهُم يَتَخَلَّوْنَ عَنها كُلَّها لأجلِ أنْ يَكونوا للهِ ويَتَمسَّكوا بِالمـُعطي وَمَصدَرِ الحياةِ والخَيرِ الأَبديَّينِ. هكَذا فَعَلَ الرُّسُلُ والشُّهَداءُ القِدِّيسونَ مِثلَ الرَّسولِ أَندراوسَ المـَدعوِّ أَوَّلًا وَالقِدِّيسَةِ كاتِرينا الرَّائِعَةِ الجَمالِ والكُلِّيَّةِ الحِكمَةِ اللَّذَين نُعَيِّدُ لَهُما هذَا الأُسبوعِ. لَقَد فَضَّلا أنْ يَحمِلا في حياتِهِما سِماتِ الرَّبِّ يَسوعَ أي آلآمَ الشَّهادَةِ عَلى التَّمَتُّعِ الوَقتِيِّ بِما في هذَا العالَمِ مِنْ مَباهِجَ وَجَمالاتٍ…
* * *
القِدِّيسةُ كاتِرينا كانَت مِن فِئَةِ النُّبَلاءِ، جَميلَةً جِدًّا وَذَكِيَّةً جِدًّا. انكَبَّتْ عَلى دِراسَةِ العُلومِ الكلاسِيكِيَّةِ كالفَلسَفَةِ وَالبَلاغَةِ وَالشِّعرِ وَالعُلومِ الطَّبيعِيَّةِ وَاللُّغاتِ. طاقَتُها على الاستيعابِ وتَفْتيقِ المـَسائِلِ الذِّهْنِيَّةِ الغامِضَةِ أَو المـُعقَّدَةِ كانَت غَيرَ عاديَّةٍ. كُلُّ ذَلِكَ وَلم يَتَجاوَزْ عُمرُها العِشرينَ رَبِيعًا. كَثيرونَ جاؤوا يَطلُبونَ وِدَّها فَلَم تَرْضَ بِأَحَدٍ مِنْهُم. ثَمَّةَ دافِعٌ في نَفْسِها كانَ يَدفَعُها عَنِ الزَّواجِ. لِسانُ حالِها، لِتَرُدَّ ضَغطَ ذَوِيها عَنها، كانَ أنَّها ما لَم تَلقَ رَجُلًا يُساويها نُبلًا وَغِنًى وَعِلمًا فَلَنْ تَرضى بِهِ عَريسًا لِنَفسِها. الإمبراطورُ مَكسيمِيانوس (٣٠٥ – ٣١١ م.) عَلِقَ بِهَواها لأجلِ كُلِّ هذِهِ الصِّفاتِ، لَكِنَّها اختارَتِ الخَتْنَ الإلهِيَّ عِوَضَ العَريسِ البَشَرِيِّ مُختارَةً عارَ الصَّليبِ عَلى مَجدِ قَيصَرَ…
هَكَذا القِدِّيسونَ عَرَفوا الرَّبَّ حياةً لَهُم وَلَم يَكُنْ يُوجَدُ أيُّ إغراءٍ أَو تَهديدٍ يُمكِنُ أنْ يُبعِدَهُم عَنهُ لأنَّهُم خَبَروهُ حَياتَهُم… وحَملوا سِماتِهِ في أَجسادِهِم الَّتي تَحمَّلَتِ التَّعذيبَ وَالجَلدَ وَالتَّرضِيضَ وَقَطعَ الأَعضاءِ والأَوْصالِ، ولَم يَهِنُوا ولَم تَخُرْ إرادتُهُم لأنَّ قُوَّتَهُم مِنْ فَوقُ مِنْ عِندِ مَصدَرِ الحياةِ وَالوجودِ…
* * *
أيُّها الأحِبَّاءُ، لا نَخفْ مَن يَقتُلُ الجَسَدَ بَل فَلتَكُنْ لَدَينا مَخافَةُ اللهِ الدَّيّانِ وَالواهِبِ الحياةِ الأَبديَّةِ. لا نَتعلَّقَنَّ بِما في هذَا العالَمِ مِنْ جَمالاتٍ وَنَنسى الَّذي أَوْجَدَها. لِنَتَعلَّمْ مِنَ القِدِّيسينَ اقتِناءَ سِماتِ الرَّبِّ يَسوعَ في حَياتِنا أي صِفاتِهِ أَو ما نُسَمِّيهِ الفَضائِلَ أي تَجلِّياتِ روحِ الرَّبِّ في أَرواحِنا وأَجسادِنا، هذَا مِنْ جِهَة. وإذ نَحتَمِلُ كُلَّ ضيقَةٍ وَشِدَّةٍ مِنْ أَجلِ المـَسيحِ، لأنَّها لَيسَتْ سِوى وَقتِيَّةٍ مَهما اشتَدَّت أَو طالَت، تَظهَرُ عَلَينا سِماتُ الرَّبِّ يَسوعَ الَّتي نَشأَتْ في مُجاهَدَتِنا وَمُصابَرَتِنا عَلى الصُّعوباتِ وَالتَّجارِبِ الَّتي نُواجِهُها بالإيمانِ الثّابِتِ في حَملِ الصَّليبِ تابِعينَ المعلِّمَ في مُجابهَتِهِ الشَّريرَ لِكَي نَغلِبَ بِهِ آلآمَ الدَّهرِ الحاضِرِ بِتَعزيَةِ الرُّوحِ القُدُسِ. هَكَذا، مَتى تَحرَّرنا مِنْ عُبودِيَّةِ العالَمِ وطَلَبِهِ وَحدَهُ عَلى أنَّهُ مَعنَى الوُجودِ في جَمالاتِهِ المـُختلِفَةِ وَلَذَّاتِهِ، نَختَبِرُ حينَئذٍ لَذَّةَ حياةِ الدَّهرِ الآتي بِنِعمَةِ الرُّوحِ القُدُسِ الَّذي فينا والَّذي يَنسكِبُ عَلَينا بالصَّلاةِ وَالصَّومِ وَالعَطاءِ وَالتَّضحِيَةِ والخِدمَةِ وَالشَّهادَةِ للحَقِّ الإلهِيِّ…
معَ المسيحِ نَجدُ كُلَّ الجَمالِ والحِكمةِ، والغِنَى والمـَجدِ الأبَدِيَّينِ ونُحَقِّقُ مَعنَى وُجودِنا في سِرِّ مَحَبَّتِهِ المـُتَنَزِّلَةِ عَلَينا بِالنِّعمَةِ الإلهيَّةِ، إذ نَشتَرِكُ مَعَهُ في آلآمِهِ لِكَي يَمنَحَنا مَعَهُ مَجدَهُ في الدَّهرِ الآتي… وَهُنا يَكمُنُ السُّؤالُ: هَلْ نُؤمِنُ بِالحياةِ الأَبَدِيَّةِ؟!…
وَمَن لَهُ أُذنانِ لِلسَّمْعِ فَليَسمَعْ…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما