نشرة كنيستي- أحد وداع عيد الظّهور- العدد 2
14 كانون الثّاني 2024
كلمة الرّاعي
الإنسان الكامل
”إلى أن ننتهيَ جميعُنا إلى وَحدةِ الإيمانِ ومعرفة ابنِ الله، إلى إنسانٍ كاملٍ، إلى مقدار قامةِ مِلءِ المسيح“ (أفسس 4: 13)
ليس من إنسانٍ كاملٍ، الكمال لله، هذا لسان حالنا نحن البشر. هذا صحيح من جهة، والمطلوب منّا هو الكمال من جهةٍ أخرى، ”فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ“ (مت 5: 48).
القدِّيسون سَعَوْا إلى الكمال طاعةً للوصِيَّة. لكن، هل الوصيّة تفوق طاقة الإنسان وإمكانيّته؟ في الحقيقة، الإنسان ليتمِّم وصيّة الله أي مشيئته هو بحاجة لله، إذ بدونه لا يستطيع شيئًا، ”لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا“ (يوحنّا 15: 5). وصيّة الله لا يمكننا أن نحياها بدون نعمته. النّعمة الإلهيَّة هي الّتي تجعلنا قادرين على صنع مشيئة الله. لكن، النِّعمة لا تفعل فينا ما لم نُرِد ونشاء، أي بدون مشيئتنا ورغبتنا لا تفرض النّعمة نفسها علينا. لذلك، نحن نعلم أنّنا نعيش الوصيَّة بطريقة تآزريّة (synergétiquement) مع النّعمة الإلهيَّة أي بتوافق مشيئتنا البشريّة مع المشيئة الإلهيَّة.
* * *
صعوبة عيش الوصيّة وبالتَّالي تحقيق الكمال تكمن في صعوبة قبولنا بمشيئة الله لأنَّنا متمسّكون بمشيئتنا. البداية في حركتنا نحو الله هي إيماننا وتاليًا رغبتنا بأن نكون معه وله. من هنا نستمدّ قوّة اندفاعنا في سعينا لعيش الوصيّة، هذا من جهة. كذلك، عشرتنا مع القريبين من الله والتصاقنا بهم، سواء كانوا يعيشون معنا أم نقرأ عنهم ونعرفهم في الصّلاة وطلب الشّفاعة كقدّيسين، هذا من جهةٍ ثانية.
القدِّيسون هم قدوةٌ لنا في تحقيق ”الكمال“ على قدر ما أُعطي كلّ واحد منهم. لذلك نتّخذهم شفعاء لنا أي مثالًا. الشَّفيع هو من نقتدي به لأنّ إنسان مثلنا جاهد وتقدَّس. نتعلّم من حياته وجهاده وتعاليمه، نلتصق به في الصَّلاة وطلب شفاعته لنا في مرافقته لنا في مسيرتنا نحو الله.
أهمّ ما نراه ونتعلّمه من القدِّيسين هو طاعتهم لله. هذا ما نراه جليًّا في سيرة القدِّيس أنطونيوس الكبير الَّذي سمع يومًا كلام الإنجيل المقدَّس: ”إن كنت تريد أن تكون كاملًا فاذهب وبِع كلّ شيء لك وأعطه للمساكين فيكون لك كنز في السَّماء وتعال اتبعني“ (متّى 19: 21). فكان لهذه الآية وقعُها العميق في قلبه، فمضـى وباع كلّ ما يملك، تاركًا لشقيقته نصيبها، ووزَّع ما خصَّه على الكنائس والفقراء. واعتزل الدُّنيا. وأخذ يزور النُّسَّاك، صارفًا أكثر أوقاته بالصَّلاة والتَّأمُّل ومطالعة الأسفار المقدّسة.
* * *
شرط الكمال هو التّخلِّي الكامل عن كلّ تعلُّق بالذّات بالمال وبالآخَرين، وتحرُّر من عبوديّة الأهواء بجهاد التّوبة كسبيل للانفتاح على نعمة الله حتّى تفعل فينا وتطهِّرنا وتُعتِقنا من كلّ أسرٍ داخليّ أو خارجيّ. الله حاضر دومًا معنا وهو يعطينا قوّة وتشجيعًا بوسائل متعدِّدة مباشرة وغير مباشرة، لكن المهمّ أن يطرح الإنسان عن نفسه الكسل. أساس كلّ نموّ روحي هو محاربة الكسل الَّذي هو أحلى الشُّرور بالنِّسبَة لنا. الرَّاحة الّتي نطلبها في الكسل تدمّر راحة القلب، وراحة القلب تطرد عنّا الكسل لأنّها ثمرة النّعمة الإلهيَّة.
طريق الكمال هو طريق القتال مع الأهواء أي طريق التّوبة. كلّما اتّضع الإنسان كلّما ارتفع، وكلّما تاب وتطهّر قلبه كلّما عرف الله واشتاق إليه أكثر فأكثر، وبازدياد الشَّوْق الإلهيَّ يُطرَد كلّ شَوْقٍ آخَر فيصير الإنسان حرًّا أكثر فأكثر.
يصل الإنسان إلى الكمال حينما يصير عبدًا للجميع على صورة معلّمه (راجع فيليبي 2: 5—11)، لأنّ الوصيّة واضحة وصريحة أنّ ”مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ أَوَّلًا، يَكُونُ لِلْجَمِيعِ عَبْدًا“ (مرقس 10: 44).
إخلاء الذّات الكلّيّ بنعمة الله يجعل الإنسان مسكنًا لملء النّعمة، وهكذا ينتهي بمعرفة ابن الله ”الله، إلى إنسانٍ كاملٍ، إلى مقدار قامةِ مِلءِ المسيح“ (افسس 4: 13).
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما