نشرة كنيستي- أحد الفرّيسيّ والعشّار- العدد 7
13 شباط 2022
كلمة الرَّاعي
زمان التّوبة
“لاَ تُؤَخِّرِ التَّوْبَةَ إِلَى الرَّبِّ، وَلاَ تَتَبَاطَأَ مِنْ يَوْمٍ إِلَى يَوْمٍ” (سي 5: 8)
اليوم نبدأ زمن التّريودي الَّذي تُحضِّرنا فيه الكنيسة المقدَّسة للصَّوم الأربعينيّ المقدَّس. تُدخلنا أمّنا الكنيسة في روح الصّوم الّتي هي التّوبة والاتّضاع والرّحمة والعطاء من خلال الآحاد الّتي حدَّدتها والتّلاوات الكتابيّة الّتي تتلوها علينا.
الشّيطان المتكبِّر جرَّ آدم الأوّل إلى السّقطة بالكبرياء، لذلك تبدأ الكنيسة تحضيرنا لجهاد الصّوم بتعليمنا كيفيّة محاربة الكبرياء والعُجب. بهذا الهوى طُرِدَ إبليس من السّماء وصار عدوًّا لله ولخليقته، وبإيقاعه الإنسان الأوّل بهذا الهوى جعله يخسرُ الفردوس. لذلك، بداية الطّريق الرّوحيّ هو محاربة الكبرياء وروح العُجب والتَّعظُّم، وهذا لا يمكننا أن نتمِّمه إلّا بالاِتّضاع المتأتّي من معرفتنا لخطيئيّتنا وسقوطنا وتألّمنا منهم ورغبتنا بالعودة إلى رحمة الله ومسامحته …
* * *
مات الإنسان لمَّا استعاض عن الله بذاته. خسر الإنسان وَحدَته الدَّاخليّة الشّخصيَّة وسِرَّ رباط الوَحدة بالحبّ مع الله والآخَر. لم يصر ظلمةً بالكلّيّة، كما حصل مع إبليس، لأنّ معرفته لم تكن كاملة، لكنّ الظّلمة دخلت كيانه وقلبه وفكره وجسده فصار ميَّالًا للشّرّ (راجع تك 6: 5). لذا، بدأت دعوة الله للإنسان بأن يتوب ويرجع عن طرقه لأنّ البارِئَ لم يخلق جبلّته للفناء بل للخلود…
الرَّبّ يسوع المسيح دلّنا على الطّريق للخلاص حين قال: “اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ” (مت 11: 29). هكذا كشف لنا أنّ مشكلة الإنسان مصدرها الكبرياء وعلاجها هو التّواضع. والكبرياء يولِّد الغضب ودواؤه الوداعة.
المتكبِّر يُظهرُ الفريسيُّ في المثل الإنجيليّ لهذا الأحد صفاتَه، فهو يظنّ أنّه يعرف نفسه لذلك لا يرى في نفسه خطيئة ويعتمد على الثّقة بنفسه وأعماله وليس بالله، فيُبرِّر نفسه بنفسه ويعتبر ذاته صاحب حقّ في إدانة الآخَرين، وهو يركن إلى فكره الخاصّ الَّذي يحوِّرُ من خلاله الوصيّة الإلهيّة لتتماشى مع مشيئته. ونتعلّم من العشّار معرفته لذاته وخطيئته ورجاءه برحمة الله وبالتّالي ثقته فيه وبأعماله لأجل خلاص الإنسان، لذا يدين نفسه ويقرّع كيانه بألم النّدامة المتولِّد من فحص الضّمير بالكلمة الإلهيَّة، فيقطع مشيئته الذّاتيّة ليُسلِم نفسه بالكلّيّة إلى يديّ الله.
* * *
التّوبة انقلاب جوهريّ في كيان الإنسان، إنّها موتُ انسلاخٍ عن الذّات المُتَمَسِّكَة بنفسها وبمشيئتها لأنّها أدركت بالخبرة “أَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ (أي الإنسان) إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ” (تك 6: 5). صعوبة كبرياء الخطيئة وخطيئة الكبرياء هي أنّها تُظلم القلب والفكر فلا يعود الإنسان قادرًا على رؤية حقيقته ويكتفي بنفسه وبأفكاره وبأعماله…
خبث الكبرياء يكمن في إسباغ صورة التّقوى على أعمال الإنسان في حين أنّها لا تتعلَّق بصنع مشيئة الله بل بإتمام الإرادة الذاتيّة. من هنا المتكبِّر لا يستطيع أن يتوب ما لم تتكسَّر صورة طاعته الزّائفة لله وما لم تتحطّم ثقته ببرِّه الذّاتيّ. العشّار قبل أن يتوب كان متكبِّرًا لأنّه كان متلسِّطًا وظالمًا وكان يبرِّر ذاته في أفعاله. لكن حين رأى حقيقته بالصّدمة الّتي نالها وحطّمت صورته الكاذبة أمام نفسه رأى أنّه يحارب الله إذ يسحق المسكين والبائس والفقير والأرملة واليتيم ويخون إخوته لأجل المال فعاد إلى نفسه ورجع إلى الله. ما هو الألم الَّذي حرّك قلبه وضميره لا نعلم، ولكن حين يستيقظ الضّمير ويستضيء بنعمة الله في روح التّوبة يكتشف الإنسان نفسه في نور الوصيّة الإلهيّة الّتي تُحرِّك فيه روحَ نَخَسِ القلب الَّذي يدفعه لذرف العَبَرات وجعًا وحزنًا لكن بدون يأس لأنّه يرجو الله ورحمته.
* * *
أيُّها الأحبّاء، الكثيرون يظنّون أنّهم يستطيعون أن يحدِّدوا زمنًا لتوبتهم فيؤخّرونها إذ يعتقدون أنّهم حين “يكتفون” من إتمام مشيئاتهم يغيّرون طرقهم، وكأنّ ما زُرع منحرفًا بعد أن يعسو ويقسو يمكن تقويمه!… بالحقيقة إنّه لا يُصلَح إلّا بالكَــســـر لأجل ولادة جديدة، قد لا يكون للإنسان الوقت الكافي لتحقيقها. طبعًا، رحمة الله واسعة ولا تُحدُّ، لكن الطَّريق الرّوحيّ واضح وهو ما دعانا إليه الرّبّ حين قال: “قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ …” (مر 1: 15).
ها أوانُ التّوبةِ قد أَزِفَ، فلنرجعْ إلى الرّبّ بكلّ قلوبنا، ولنواضِع أنفسُنا بالمعرفة الحقّانيّة، فاحصين ضمائرَنا بالكلمة الإلهيَّة وباحثين في قلوبنا بنور النّعمة لكي نصـرخ إلى الرّبِّ تائبين بدموع، اللَّهمّ ارحمني أنا عبدَك الخاطئ وخلِّصني قبل أن أهلك بالكلّيّة…
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما