نشرة كنيستي- الأحد (27) بعد العنصرة- العدد 50
10 كانون الأوّل 2023
كلمة الرّاعي
روح الميلاد وفرح المشاركة
”وَلكِنْ إِنْ سَلَكْنَا فِي النُّورِ كَمَا هُوَ فِي النُّورِ، فَلَنَا شَرِكَةٌ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ، وَدَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ“.
(1 يو 1: 7)
لا يستطيع البشر أن يفرحوا ما لم يتحرَّروا من عبوديّة الأهواء والخطيئة. هذا الفرح ليس دنيويًّا بل إلهيًّا أي عطيّة الرّوح القدس. والفرح الرّوحيّ ليس أنانيًّا لأنّه ينعكس على الشَّخص ومُحيطه، فيمتدّ إلى الآخَرين وحتّى إلى الطَّبيعة أي الجماد والحيوان، لأنّ ثمر الفرح الإلهيّ سلام…
المؤمن لا يعيش إلّا في شركة محبّة مع الآخَر والخليقة، هذا دأبه وسعيه وإلّا يكون في الضّلال. تحقيق هذا مِنْ عمل النِّعْمَة الإلهيَّة في الإنسان.
كثيرون يطلبون ”السَّعادة“ لأنفسهم في الفانيات والوقتيَّات، هذا منطق العالم، لكنّه ”بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ“ (جامعة 1: 14).
ما لم يتطهَّر الإنسان مِنْ خَطاياه يبقى في الأنانِيَّة والعُبودِيَّة للكبرياء، أي هو يعيش لذاته وكلّ ما يعمله هو فقط لأجل حياته. الأنانيّ لا يستطيع أن يشارك أحدًا، هو مستهلِكٌ بامتياز لكلّ من وما حوله لأجل إثبات وجوده وتحقيقه…
المسيحيّ لا يستطيع أن يكون أنانيًّا لأنَّ الأنانية عكس المسيحيَّة الَّتي هي شركة ومشاركة أساسها الوحدة في جسد المسيح الواحد. مَنْ أيْقَنَ أنّه عضو في جسد المسيح لا يمكنه أن يعيش مُنعزلًا عن شركة هذا الجسد، ”فَإِنَّهُ كَمَا فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ لَنَا أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ، وَلكِنْ لَيْسَ جَمِيعُ الأَعْضَاءِ لَهَا عَمَلٌ وَاحِدٌ، هكَذَا نَحْنُ الْكَثِيرِينَ: جَسَدٌ وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ، وَأَعْضَاءٌ بَعْضًا لِبَعْضٍ، كُلُّ وَاحِدٍ لِلآخَرِ“ (رو 12: 4—5).
* * *
الله شركة، والحياة الأبديّة هي عيش سرّ هذه الشَّركة الإلهيَّة. ”نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ اللهِ، وَشَرِكَةُ الرُّوحِ الْقُدُسِ مَعَ جَمِيعِكُمْ. آمِينَ“ (2 كو 13: 14). الرُّوح القُدُس هو روح الشَّركِة ومُحقِّق الوحدة بين أعضاء جسد المسيح.
الكنيسة الأولى عاشت هذا السّر وهذه الخبرة، إذ ”كَانَ لِجُمْهُورِ الَّذِينَ آمَنُوا قَلْبٌ وَاحِدٌ وَنَفْسٌ وَاحِدَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِ لَهُ، بَلْ كَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكًا“ (أع 4: 32).
في هذه الأيَّام، نجد أنَّ هذه الرُّوح صارت نادرة، حتّى في العائلة الواحدة بين الزَّوْج والزَّوجة كلٌّ منهما يحسب ما منه وله وما عليه عِوَضَ أنْ يكون هناك صندوقٌ واحدٌ لأنّ الأهمّ وهو أنْ يُسْلِم الإنسان نفسه للآخَر، مِنَ المُفتَرض أن يتحقَّق في قرار الزَّواج وفي عَيْشِ السِّرّ. عالم اليوم يدفع الإنسان نحو الفردانيَّة والسَّعي لإرضاء الذّات ولو على حساب تدمير شركة المحبَّة الّتي حتّى يحقّقها البشر يحتاجون للكثير من التّحرُّر من أنايّتهم وكبريائهم أي هم بحاجة أن يعيشوا سرّ التّضحيّة والاتّضاع اي سرّ ”إخلاء الذّات“.
* * *
أيُّها الأحبّاء، ها نحن على أبواب عيد ميلاد ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح. ها هو يأتينا طفلًا مُضْجَعًا في ”مذْوَدٍ حقير“. الرَّبُّ شاركنا فقرنا وضعفنا وحرماننا، هو اختبر ما نعيشه نحن من غربة بين البشر ومن لامبالاة بين بعضنا البعض ومن قوقعة كلّ إنسان حول نفسه وجماعته، ومن إهمال للفقير والبائس والمتروك والمهمَّش… لقد أتى ليقول لنا أنّه واحد مع كلّ هؤلاء وأنّ كلّ ما ”فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ (…) (وكل ما) لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا“ (مت 25: 40—45).
إنّ مصدر كلّ فرح هو عيش سرّ المحبَّة والمحبَّة هي شركة ومشاركة وبغير ذلك لا تكون، وهذا هو سرّ المسيحيّة وجوهرها ولاهوتها وعقيدتها…
ها العيد يقترب فكيف لنا أن نتهيَّأ له؟ كيف نستعدّ لاستقبال الإله المتجسِّد الَّذي أتى ”لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ اللهِ الْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ“ (يو 11: 52)؟!…
فرح العيد هو أن نفتكر في المسيح الذّي في المحرومين والَّذين هم في شِدَّةٍ وضيق وحاجة وألم ومرض… الفرح الإلهيّ يُعطى لنا إذ اشتركنا بما أنعم الله علينا به من خيرات مع فاقديها… كلّ قلب تفرّحه وتعزّيه يَصيرُ لك هنا خبرة ملكوتيّة لسِرِّ فرحِ الدَّهر الآتي وبركة تُرافِقُك مع المختصّين وسترًا بنعمة الله من تقلّبات هذا الدّهر وشركة مع القدِّيسين في المسيح…
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما