نشرة كنيستي- أحد العنصرة العظيم- العدد 25
23 حزيران 2024
كلمة الرّاعي
روح الرّبّ والإنسان
“وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً” (تك 2: 7)
“فَمَنْ هُوَ الإِنْسَانُ حَتَّى تَذكُرَهُ؟ وَابْنُ آدَمَ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ؟” (مز 8: 4) هو صورة الله، لكنَّه سقط وخسر روح الرّبّ الَّذي فيه، خسر كمال الصُّورة الإلهيَّة الَّتي خُلق عليها. لكنّ الله لم يتركه، لم يبتعد عن خليقته الَّتي تركته لتحتفر “آبارًا مشقَّقة لا تضبط ماءً” (إر 2: 13). خُدع الإنسان ويُخدع باستمرار من إبليس-الحيّة الَّتي تُغويه بالتّألُّه بدون روح الرّبّ، هذا هو سبب موته أنّه أطفأ الرُّوح القدس الَّذي فيه (1 تس 5: 19).
الخالق لم يتخلَّ عن الَّذي عصاه، ولم يتركه للموت بل دبَّر له خلاصًا بذاته بابنه الوحيد نسل حوّاء الجديدة (راجع تك 3: 15)، مريم والدة الإله… بروح ابن مريم أُعيد خلق الإنسان على صورة خالقه ابن الله وابن الإنسان يسوع المسيح.
عاش الإنسان بعد السُّقوط في الحرمان من سُكنى روح الرّبّ فيه فصار تحت لعنة النّاموس الَّذي كشف خطيئته، “لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ كُلُّ ذِي جَسَدٍ لاَ يَتَبَرَّرُ أَمَامَهُ. لأَنَّ بِالنَّامُوسِ مَعْرِفَةَ الْخَطِيَّةِ” (رو 3: 20). هكذا صار النَّاموس “مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ، لِكَيْ نَتَبَرَّرَ بِالإِيمَانِ” (غل 3: 24). البِرّ، إذًا، بالإيمان وليس بأعمال النَّاموس لذلك “فَإِنَّهُ لَيْسَ بِالنَّامُوسِ كَانَ الْوَعْدُ لإِبْرَاهِيمَ أَوْ لِنَسْلِهِ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا لِلْعَالَمِ، بَلْ بِبِرِّ الإِيمَانِ” (رو 4: 13)…
* * *
كلّ تدبير الله الخلاصيّ كان لكي يُعيد الرّبّ إحياءَنا بروحه القدُّوس حتّى يتصوَّر فينا المسيح (راجع غل 4: 19). الإنسان بدون روح الله “كُلّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ” (تك 6: 5) لأنّ “كنز الصّالحات” (صلاة استدعاء الرُّوح القدس) لا يسكن فيه. هذا لا يعني أنّ من اعتمد وأخذ ختم موهبة الرُّوح القدس قد صار مُحقِّقًا كماله، هو في السَّعي، والخطر عليه أن يُغلق قلبه دون روح الرّبّ… هذا حسابه أكثر من الَّذي لم يأخذ الرُّوح القدس لأنّ الَّذي أُعطي أكثر يُحاسب أكثر…
بدون روح الرّبّ لا نستطيع أن نعرف المسيح ونعبده ونطلبه. روح الرّبّ يرشدنا إلى الرّبّ ويُسْكِنُنَا فيه، وبه يسكن فينا… فقط بروح الرّبّ نصير آدم جديدًا، حين يصير المسيح نَفَسُ أُنوفنا… الرُّوح القدس هو الَّذي يعطينا أن نعرف المسيح أن نفهم كلمته وأن يصير هو حياتنا إذ به “نحيا ونتحرَّك ونوجد” (أع 17: 28).
من هنا كان تحقيق وعد الله لحوّاء بأن يأتي من نسلها من يسحق رأس، ابن الله المتجسد الَّذي أتى وحقق الغلبة النّهائيّة على الشّرّير وحرَّر البشر من سلطانه، لكن هذه الحرّيّة لا يستطيع الإنسان أن يقتنيها ويحقّقها بدون الرُّوح القدس الَّذي هو “موعد الآب” (راجع لو 24: 49) “روح الحقّ” و “رازق الحياة” (من صلاة استدعاء الرُّوح القدس).
* * *
أيُّها الأحبّاء، يسوع المسيح أتمّ خلاصنا فيه، والرُّوح القدس يمدّ هذا الخلاص فينا ويهبنا إيّاه. لكنّ، المسألة ليست سِحْرِيَّة ولا تلقائيّة (automatique)، بل تتطلّب جهادًا وعرقًا ودمًا لأنَّ عدوّنا إبليس “كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ” (1 بط 5: 8). الصُّعود وَليد القيامة، والعنصرة وَليدة الصُّعود، وهذا كلّه ترتيب حبّ الله الجنونيّ للبشر لأنّه لم يقبل أن يتركنا في جحيم خطايانا وعزلة أنانيّتنا بل اقتحم ظلمة عالمنا وبثّ فيها نوره غير المخلوق كاشِفًا حبّه غير المحدود لنا ليمنحنا الغلبة بالرَّجاء في روحه القدُّوس المـُحيي… لكي يُجلسنا معه وبه وفيه عن “يمين العظمة” (عب 1: 3 و8: 1).
من هنا العنصرة هي خلقنا الجديد بالرُّوح القدس لتجديد صورة الله فينا بالمسيح في الرُّوح القدس حتّى نصير “آلِهَةً وَبَنِي الْعَلِيِّ كُلّنا” (راجع مز 82: 6). بالرُّوح القدس نستطيع أن نُطيع وَصيّة المسيح، لأنّ الطّاعة الحقّ هي قبولنا غير المشروط للكلمة الإلهيَّة على أنّها كلمةٌ تحمل قوّة الحياة الأبديَّة والقداسة …
في العنصرة يتحقَّق مشروع الله للبشريّة ولكنّه يكتمل في مجيء الرّبّ الثّاني حين يَدين الأحياء والأموات… فهل نحن مستعدّون لاستقباله كالعذارى العاقلات أمّ إنّ أواني زيتنا لا تكفي لننتظر ختن نفوسنا؟!…
من كان حكيمًا فليفُرغ ذاته من روح العالم ليصير مسكنًا للرُّوح القدس… بالتَّوبة… والمسامحة… والعطاء المجانيّ والتّضحية…
ومن استطاع أن يقبل فليقبل…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما