نشرة كنيستي- الأحد (7) بعد العنصرة- العدد 32
11 آب 2024
كلمة الرّاعي
رقاد وانتقال والدة الإله – الفصح الصَّيفيّ
فقط والدة الإله والقدِّيس يوحنّا المعمدان تُحدِّد الكنيسة صَوْمًا في ذكرى رقادهما. هما يَرتبطان مباشرةً بِسِرِّ التَّجسُّد العظيم، ودورهما أساسيّ في استعلان ابن الله بحسب النُّبوءات (راجع مثلًا إش 7: 14 و40). من هنا كان صوم عيد الرُّقاد تحضيرًا للاشتراك في سرّ هذا العيد ومفاعيله في حياتنا كمؤمنين.
بحسب التَّقليد الأرثوذكسيّ، رقدتْ مريم العذراء كما يَرقد أيّ مؤمنٍ آخَر، ولكنَّها بعد رقادها نقلها ابنها الرَّبُّ يسوع المسيح إلى السَّماوات بعد أنْ أقامها بالجسد في اليوم الثّالث. وكما نرتّل في إكسابستلاري العيد “فالرُّسل اجتمعوا حول مضجعها بعد أن أُحضروا من مختلف أصقاع الأرض، والمسيح نفسه حضر ليأخذ روحها إلى السَّماء”. في اليوم الثَّالث من دفنها، عندما ذهب الرُّسل إلى قبرها، وجدوه فارغًا، ممّا أكَّد لهم قيامتها بالجسد وانتقالها إلى السَّماء.
* * *
إنّ رقاد والدة الإله دليل على إنسانيّتها الكاملة وأنّها بحاجة إلى المسيح للخلاص. أمّا انتقالها بالجسد فهو إعلان خلاصها بالمسيح الَّذي أدخلها ملكوته الأبديّ قبل أيِّ كائنٍ بشريّ آخَر. لذلك، بما أنّها أُقيمتْ بالجسد من بين الأموات فهي باكورة البشريّة الجديدة في المسيح وبه، وهي أوّل مستوطني ملكوت الله من البشر المخلوقين. مريم رافقت يسوع وكانت حاضرة معه في مسيرته “تَحْفَظُ جَمِيعَ هذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا” (لو 2: 19) منذ التّجسُّد إلى الصَّليب والقيامة حتّى صعوده إلى السَّماوات وإرساله الرُّوح القُدُس. هي كانت شاهدةً على كلّ تدبير الله الخلاصيّ والخلاص الـمُحقَّق في يسوع وبه. مريم العذراء كانت جواب البشريّة المؤمِنة في مشروع الله الخلاصيّ. فهي الَّتي حَمَلَتْ المسيح في بطنها، وهي الَّتي رافقته في حياته الأرضيَّة، ولذلك هي الَّتي تُشارك الآن في مجده السَّماويّ كعربون للقيامة العامّة للبشر في المسيح وبه، وبُرهان على أنَّ الجسد البشريّ مقدَّس وأنّ الخلاص النَّهائيّ لا يتحقَّق إلّا في القيامة العامّة عندما سيَقوم كلُّ البشر بأجسادهم المتحوِّلة بالنِّعمة إلى أجساد غير فانية حيث يتّحد الجسد بالنَّفس ويكتمل الإنسان من جديد نفسًا وجسدًا باتّحاده مع الله عبر سكنى نعمة الرُّوح القدس فيه.
* * *
أيّها الأحبّاء، إنّ هذا عيد رقاد وانتقال والدة الإله الَّذي نحتفل به في نهاية هذا الصَّوْم، هو دعوة لنا للتَّأمُّل في حياتنا الرُّوحيّة أي في عيشنا لوجودنا بنعمة الرُّوح القُدُس من خلال السَّعي إلى التَّنقية من الأهواء والخطايا للشِّفاء من أمراض النَّفس واقتناء الصِّحَّة الرُّوحيَّة، وهذا نحقّقه بالتَّوبة والاعتراف والصَّوْم والصَّلاة والعطاء والخدمة والغفران والمسامحة وحمل أثقال بعضنا البعض (غل 6: 2)، وهذا هو سعينا إلى القداسة. مِنْ هنا، فإنّنا إذ نُعَيِّد هذا العيد فلنجعله فرصةً لتَجديد إيماننا واِلتزامنا بوصيّة المسيح وتعليمه، عبر اقتدائنا بمريم العذراء في طاعتها الكاملة لمشيئة الله.
إنّ هذا العيد يذكِّرنا، كمُؤمِنين بالقيامة، أنّ الموت ليس نهايةً بل هو بدايةً لحياةٍ جديدة، مع المسيح وبه وفيه في ملكوت أبيه من خلال نعمة الرُّوح القدس، وأنّنا سنُقام جميعًا إلى الحياة الأبديّة كما أُقيمت مريم بالجسد، ومن هنا يفتح لنا هذا العيد أبواب التَّأمُّل في عظمةِ محبَّةِ الله ورحمته لخليقته وعلى رأسها الإنسان، واضِعًا نُصْبَ أعيُنِنا مريم العذراء، كأمٍّ للمسيح وأمٍّ للمؤمنين، شفيعةً حارّة لا تُردّ طلبتها وملجأ لجميع الملتجئين إليها ومرافقة لنا أمام عرش ابنها لتطلب إليه أن يرأف بنا ويرحمنا من زلّاتنا وسقطاتنا وخطايانا الكثيرة الَّتي لن نتحرَّر منها إلَّا بقوَّةِ الله، ومن هنا أهميَّة دور الثِّيوطوكس (Theotokos) الَّتي نستجير بها بعد الله لتوصلنا نحن غير المستحقِّين إلى أمام كرسيّ ملكه لطلب غفران خطايانا وشفاء أمراض أرواحنا. وهذا العيد، يجعلنا نتيقّن أنَّ فصح الرَّبّ قد تحقَّق فيه وهو يتحقَّق في المؤمنين به، والعذراء مريم هي أوَّل مَنْ اجتَنى ثمرة قيامة المسيح فصار رقادها فصحًا جديدًا لنا بالمسيح الَّذي أقامها بالجسد، وهذا هدف وجودنا وحياتنا وإلَّا فلا قيمة لشيءٍ والكلّ “باطل الأباطيل” (جا 1: 2) …
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما