نشرة كنيستي- الأحد (9) بعد العنصرة- العدد 33
14 آب 2022
كلمة الرَّاعي
رقاد والدة الإله
من الولادة في ملء الزّمان إلى الولادة في الأبديَّة
”لَمَّا حَانَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النّاموس، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النّاموس، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ“ (غل 4: 4 و5).
تختصر هاتان الآيتان سرّ التَّدبير الإلهيّ وعمل الخلاص. الله الآب الَّذي لا بدء له أرسل ابنه الوحيد وكلمته المولود منه خلوًّا من زمن وقبل كلِّ الدّهور مولودًا من المرأة نسل حوَّاء الأولى، أرسله بالولادة من مريم العذراء تحت النّاموس ليحرِّر الَّذين تحت النّاموس من نِيرِ النّاموس أي من العبوديَّة ليرفعهم إلى بنوّة الله بالتَّبَنّي بيسوع المسيح. ثمرة هذه البنوّة هي أن ”أَرْسَلَ اللهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخًا: “يَا أَبَا الآبُ”. إِذًا لَسْتَ بَعْدُ عَبْدًا بَلِ ابْنًا، وَإِنْ كُنْتَ ابْنًا فَوَارِثٌ للهِ بِالْمَسِيحِ…“ (غل 4: 6 و7). إذًا، بمسرَّة الآب أُرسِل الابن مولودًا من الفتاة العذراء لتبنّي البشريّة بسُكنى الرُّوح القدس فيها لميراث ملكوت السَّماوات بالمسيح يسوع.
* * *
مريم الفتاة المُختارة من الله حين قالت لجبرائيل ”ليكن لي بحسب قَوْلك“ (لو 1: 38)، ظلَّلها الرُّوحُ القدس وسكن ابن الله في أحشائها واتّخذ طبيعته البشريّة منها فيها. حين حَبِلَتْ به حَبِلَ بها، وحين وَلَدَتْهُ وَلَدَهَا. حين سَكَنَ أقنومُ الكلمة في أحشائها سكنت هي فيه إذْ ظلَّلتها النّعمة الإلهيَّة من الخارج واستقرّت فيها من الدَّاخل بالمولود الَّذي فيها لتحفظها كونها تحمل الإله نفسه في جسدها. وحين وَلَدَتْ الطِّفل الإلهيِّ في ملء الزَّمان وُلِدَت هي منه في الأبديّة لأنّها لم تعد تنفصل عنه إذ هو منها وفيها وهي منه وفيه. كان يمكن للرَّبِّ أنْ يَهَبَها أنْ لا تَموت لأنّها حَوَتْ مصدر كلّ الحياة والجود في جسدها واتّحدت به، لكن كان لا بدّ لها أن تعبر بموت الطَّبيعة القديمة لتدخل بطبيعتها المُتَجَدِّدة في ابنها والَّتي هي على صورة جسده القائم من بين الأموات. إذًا، حين حبلت مريم بابن الله الوحيد غير المخلوق دخلت في سِرِّ سرمديّة الله بالَّذي فيها، فصارت منذئذ ابنة الدَّهر الآتي بالقوّة (par potentiel).
* * *
تعييدنا لرقاد والدة الإله وانتقالها بالجسد إلى السَّماوات هو فرح روحِيّ لنا، كونه ثمرة قيامة المسيح من بين الأموات وتدشين الملكوت بدخول أوّل كائن بشريّ من أب وأمّ إلى حضرة الثّالوث القدّوس بالجسد إلى جانب الرَّبّ يسوع المسيح. هذا ختم قيامة المسيح في البشريّة الجديدة الَّتي هي على صورته مثاله. مريم هي أوّل كائن بشريّ يتمتّع بوعد المسيح للبشريّة بالقيامة، وهي استبقت القيامة العامّة إذ أقامها ابنها وإلهها بالجسد، فصارت باكورة سكّان الملكوت في يسوع المسيح.
رجاؤنا بالقيامة تحقَّق في مريم لأنّه فيها أتمّ يسوع الخليقة الجديدة التي ننتظر نحن استعلانها فينا بالكامل في يوم القيامة—يوم الدّينونة…
لا شكّ أم مريم والدة الإله هي مميّزة بين كلّ البشر، وأنّ ما حصلت عليه من مجد إلهيّ لا يمكن أن يحصل عليه أحد لأنّها حملت خالق الكون في حشاها وربَّته كإنسان وأرضعته من لبن ثدييها. أمّا نحن، فنفرح لأنّ لنا شفيعة حارّة لدى المخلص والرَّبّ، لدى الخالق الّذي صار ابن مريم. هي قدوتنا في طريق القداسة، وقدوة جميع القدّيسين. سِرُّها هو طاعتها الكاملة للرّبّ: ”ليكن لي بحسب قولك“. هي تقودنا إلى طاعة يسوع: ”مهما قال لكم فافعلوه“ (يو 2: 5).
طهارتها وعفَّتها ونقاوتها مصدرها الطّاعة لله وللوصيّة، وصلاتها وصَوْمها… محبّتها لله. من يحبّ الله أوَّلًا يكون أمينًا له في كلّ شيء.
نحن ضعفاء. محبّتنا للرّبّ تنغّصها أنانيّتنا، فلا نقدر أن نحبّ القريب لأنّنا لا نحبّ الله أوَّلًا. قداستنا، نقاوة قلوبنا، عفّتنا، راحتنا وسلامنا وفرحنا كلّها ترتبط بأولويّة محبّة الله قبل كلّ شيء. هذا سرّ مريم في اختيار الرّبّ لها كونها صارت زبدة برّ العهد القديم، فأضحت قمّة قداسة العهد الجديد.
ألا منحنا الرّبّ بشفاعاتها وسعينا للاقتداء بها أن نصير أهلًا للخلاص ولبنوّة الله، متّخذين مريم أمّا لنا نشرب من نبع حنانها علينا ومن بحر حبّها للرّبّ والتّسليم الكلّيّ لمشيئته…
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما