برحمة الله تعالى
يوحنا العاشر
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس
إلى
إخوتي رعاة الكنيسة الأنطاكية المقدسة
وأبنائي وبناتي حيثما حلوا في أرجاء هذا الكرسي الرسولي
أيها الإخوة والأبناء الروحيون الأعزاء،
ونحن في مستهل الأربعينية المقدسة، حري بنا أن نتأمل كيف تقود الكنيسة مراقي النفس إلى أعتاب القيامة المقدسة. نحن في ركب تسير فيه النفس مع المسيح لتبلغ معه وبه قيامته وقيامتها بها. وضعت الكنيسة المقدسة الصوم الأربعيني لتقول إن الإنسان هو سيد نفسه بالاتكال على الله. وضعته لتقول إن أدران النفس يجب أن تغسل قبل الولوج إلى أعتاب القيامة. وضعته لتقول إن الله يرتضي من ينقي الذات ويروضها ويقودها إليه نقية طاهرة.
الصوم صدقة ورحمة وإحساس بالآخر. وهو قبل كل شيء عطاء دائم. هو ليس مجرد حرمان من أطعمة لا بل رمزاً من خلاله نقول لخالقنا إننا نحرم عن أنفسنا لنضع في فم الفقير الذي أحببته. الصوم عطاء وتخلٍّ وترك. ولعل كل جوانبه تختزل ههنا. الصوم مغفرة والمغفرةُ تركٌ وهي بذلك عطاءُ من لم يهَبْه اللهُ مالاً أرضياً. الصوم طرحٌ لغضب النفس وتركٌ “لمن لنا عليه” حتى ينجلي فينا نور المسيح فنُضيء للجميع. يقول الآباء القديسون ما معناه: لا ندعنّ شمسَ هذا العالم تغرب على غضبنا لئلا تهجرَ نفسَنا شمسُ العدل والبر أي المسيح له المجد.
الصوم مسيرةٌ نغسل فيها عمق النفس بطيب المسيح. الصوم معمودية نرحض بها ضغائن الذات في جرن التوبة. الصوم فصح وعبور نعبر فيه وبه من روتين الحياة إلى ربيع النفوس. الصوم انحناءة نفس ترتمي في جلجلة المسيح لتقوم وتنهض به ومعه. الصوم ذخر النفس التي تتلمس من إماتتها فيض الحياة بالرب وتتحسس في جهاداتها ونسكها ظَفَر الرب الغالب.
ونحن كمسيحيين مشرقيين قد ورثنا هذه الممارسة منذ فجر المسيحية. وتعلمنا منذ الصغر كيف نربط حياتنا الوقتية بحياتنا الأزلية. لقد تعلمنا، وخصوصاً في هذه الفترة، كيف أن أجراسنا تَقْرع وتدقُّ باب قلبنا لنسجد لـ”رب القوات”. لقد أَلِفْناها تناجينا حفلاً واحداً متحلقاً حول العذراء في مدائحها. أجراسنا وكنائسنا في هذه الأيام تدعونا لنزهر ومع ربيع الطبيعة ربيع علاقةٍ مع الخالق المحب. تدعونا لننفض عن النفس كل ما يعيق لنلج خدر المسيح ختَنِ النفس ونوقد له كالعذارى العاقلات سُرج النفوس نباهةً وحكمةً ومحبةً وشوقاً وتمييزاً وسط دياجير هذا العالم. تهزّنا لنقف ناظرين غنى محبةٍ لم تأنف من أن تسلك حتى درب الألم والصليب من أجل الجبلة البشرية. وتحثّنا وتدفعنا في آخر المطاف أن نتلمس فجر قيامة يسوع وأن ننثر على رمسه الفارغ أكاليل الظفر وأوراق الغار ذكرى لنصره على الموت وبشرى لقيامته المجيدة.
نرفع صلاتنا من أجل سلام العالم أجمع وخير هذا الشرق الجريح الذي يئن لألم بلدانه وألم إنسانها من كل الأطياف. نرفع صلاتنا كي تذوب تهاويل الحروب في غمرة تهاليل السلام. نرفع صلاتنا من أجل كل حبيبٍ أخذته عنا قسوة الزمن الحاضر. ونصلي لأجل كل من فارقنا على رجاء القيامة والحياة الأبدية. نصلي من أجل العين الساهرة على أوطاننا ومن أجل أن تصان من كل تكفيرٍ وإرهاب وخطفٍ وعنفٍ وضيقة حال.
نرفع صلاتنا من أجل المخطوفين ومنهم أخوانا المطرانان يوحنا إبراهيم وبولس يازجي مطرانا حلب المخطوفان منذ نيسان 2013 وسط صمت دولي مطبقٍ ومريبٍ يحز في نفسنا مثلما يحز الخطف المدان والمستنكر.
نستغفركم، إخوتي وأحبتي، في هذه الأيام المباركة ونسأل الرب القدير الذي صام أولاً ليرشدنا إلى هذا الطريق أن يديم مراحمه في قلوبكم جميعاً ويمنحنا من فيض نِعَمه الإلهية ويمشح حياتنا جميعاً بحضوره القدوس، هو المبارك إلى الأبد آمين.
صدر عن مقامنا البطريركي بدمشق
بتاريخ الثالث والعشرين من شباط للعام ألفين وعشرين.