نشرة كنيستي- الأحد الرّابع من الصَّوْم (البارّ يوحنّا السُّلَّميّ)- العدد 13
30 آذار 2025
كلمة الرّاعي
جهاد العِفَّة
“إنَّ هَذا الجِنسَ لا يُمكِنُ أَن يَخرُجَ بِشَيءٍ إلاَّ بِالصَّلاة والصَّوْم” (مر 9: 29)
الزَّمَن الحاليّ يتميَّز بعبادة اللَّذَة بكُلِّ أنواعِها وخاصَّةً لذَّة الأجساد حيث تُسوَّق هذه العبادة تحت مُسَمِّياتٍ كثيرة منها الحُرِّيَّة الفَرْديّة والحُرِّيَّة الجنسيّة وحقوق الإنسان إلخ. الوثنيّة عادت بقوّة في هذا الزَّمَن بتأثيرِ وسائل التَّواصُل الاجتماعيّ ومُختَلَف الوسائل المرئِيَّة. طبعًا، هذه وراءها فلسفات غايتها أنْ تَدْفَع الإنسان بعيدًا عن حقيقته الَّتي هي أنَّه على صورة الله، وتكْمُن فيها حَرب روحِيَّة يَقودُها الشَّيطان لِتَغْريب الإنسان عن حقيقته الأنطولوجيَّة*. الإنسان المعاصِر يَعيش في دَوّامَةِ البَحْث عن الذَّات وإثبات وُجوده من خلال الاستهلاك لِذَاته وللآخَرين وللخَليقة في العُبودِيَّة لملذّاته الَّتي تُسَوَّق له على أنّها باب السَّعادة وغاية الوُجود. هذا المنطق الَّذي يُرَوَّج له يرى في خضوع الإنسان لِشَهَواتِ البَشَرَةِ غاية الوُجود، هذا الوُجود الَّذي يَغيب فيه ويُغَيَّب الحُبّ كمَصْدَر وطريق وغايةٍ لوُجودِهِ الحَقّ… مِنْ هُنا، في العالم المعاصِر، يوجَد شِبْه غُربة تامَّة عن مفهوم الحياة الرُّوحِيَّة والجهاد لاقتناء الفضائل وعلى رأسها العِفَّة، لأنّ الله إمَّا أنّه مُغَيَّب أو صورته مشوَّهَة في الحملات الإعلاميّة والفكريّة والفلسفيّة الَّتي يَقودها أصحاب المصالح الاستهلاكيَّة والرِّبح المادّيّ والمتسلَّطون على خيرات هذا العالم. هذا، في الـمُقابِل، ينتج عنه عند المسيحيّين تيّارات أصولِيَّة تنشأ كرَدَّة فعل دينِيَّة على هذا المنطق تأخذ الإنسان أيضًا، عند البعض، إلى وثنيَّة الحرف والنَّاموس فتجعله دَيَّانًا وليس مبشِّرًا للعالم بالحياة الجديدة الَّتي في المسيح يسوع…
* * *
لا شَكَّ أنَّ مَفهوم العِفَّة صارَ غَريبًا في هذا الزَّمَن، لأنَّ إنسانَ اليوم يُريدُ أنْ يَكون “حُرًّا” حتَّى مِنْ ضميره وتاليًا هو أيضًا لا يُريد أن يخضع لأيّة مشيئة غير مشيئته الذَّاتِيَّة، ولذا فهو يبتعد عن الله لأنَّ الوَصيّة تُصبح ثقيلة عليه لا بَل يرى فيها تقييدًا لحُرِّيَّتِه. فأفكار الشَّهوة وأفعالها هي حَقٌّ للإنسان في المفهوم المعاصِر لحُقُوق الإنسان، وهذا يعني أنَّ العالَم تَخَلَّى عن الأسُسُ الأخلاقِيَّة النَّابِعَة من الإيمان فكم بالحَرِيِّ عن الفضائل!… بناءً عليه، فإنَّ الإنسان المؤمن المعاصِر يُعاني ويُضطهد فكريًّا، أقلَّهُ، إذا أرادَ أن يَعيش العِفَّة لأنَّ هذا المفهوم صار غريبًا في عالم اليوم خاصّةً مع الحَمْلات الممنهَجَة الَّتي تقودُها وسائل الإعلام التِّجارِيَّة المتحكِّمَة فيه. لكن، هذه هي شهادتنا كمؤمنين اليوم أنْ نَعْرِفَ الحَقَّ ونعمل به حتّى ننطقه حياة وكلمة.
في هذا الإطار، نعيش جهاد العِفَّة بالصَّلاة والصَّوْم. ويَنْصَح القدِّيس يوحَنَّا كاتب السُّلَّم إلى السَّماء بأنّه: “يوافِق الَّذين لم يمتَلِكوا بعد صلاة القلب الحقيقيّة أن يُغصِبوا ذواتِهم في الصَّلاة الجسديَّة، أعني رَفِع اليَدَيْن وقَرع الصَّدر والتَّطلُّع إلى السَّماء والتَّنَهُّد العميق وإحناء الرُّكَب باستمرار، (…). واهتف إلى القادر أن ينقذك لا بأقوالٍ مَدروسة بل بكلامٍ مُتواضع بادِئًا كلَّ صلواتك بهذا التَّضرُّع: ˀارحمني يا ربّ فإنّي ضعيفˁ. وحينئذ تختبر قدرة العَليّ وتطرد غير المنظورين…” (كتاب السُّلَّم إلى الله، المقالة 15، المقطع 80). إذًا، علينا أن نغصب أنفسنا على الصَّلاة بمعرفة لضعفنا وروح توبة وتواضع لكي يُعطى لنا الغلبة على شهوات الجسد. لكن هذا لا بدَّ أن يَترافق مع الصَّوْم بتواضع أيضًا، فالسُّلَّميّ يقول: “مَن حاول أنْ يُخْمِدَ تلك الحرب (أي حرب الزِّنَى وشهوة الجسد) بالإمساك فقط فهو يشبه من يَسْبَح بيَدٍ واحدة ويَرومُ الخَلاص من لُجَّةِ البحر. أقرن بالإمساك تواضُعًا فإنّ الإمساك بلا تواضُعٍ باطل” (كتاب السُّلَّم إلى الله، المقالة 15، المقطع 40).
* * *
أيُّها الأحِبَّاء، “العِفَّة اسمٌ جامِعٌ لكلِّ الفضائل” (كتاب السُّلَّم إلى الله، المقالة 15، المقطع 3)، لأنّها أساس كلّ جهاد لاقتناء أيّ فضيلة. لأنّك لتقتني فضيلة ما عليك أن تُمسِكَ عن هوًى بالمـُقابِل وتُحارِبُه ليس فقط بالامتناع عنه بل بالعمل على اقتناء ما يُعاكِسُهُ ويُضادّه مِنْ خِلال طاعة الوَصِيَّة الإلهيّة. ولاقتناء العِفَّة على الإنسان أن يُقِرَّ بضُعْفِهِ أمام الله ويتعلَّم أنْ يُسلم إليه ذاتَه ببساطة الإيمان والاتِّكال عليه، لذلك “قدِّم للرَّبِّ ضُعْف طبيعتك معترِفًا كلّيًّا بكامل عجزك فتَنَل موهَبَة العِفَّة وأنت لا تَشْعُر” (كتاب السُّلَّم إلى الله، المقالة 15، المقطع 26).
مع الصَّلاة والصَّوْم ثبِّتْ جهادَك بالاتِّضاع لتَثْبُت فيكَ العِفَّة الَّتي بالنِّعْمَة، وتَعَلَّم أنْ تُحِبَّ وتبذُلَ وتخدم وتُبَدِّد في العطاء، لأنَّ الغَلَبَةَ على شيطان الزِّنَى والشَّهواتِ الجسَدِيَّة لا بُدَّ أنْ تَمرَّ بإخلاء الذَّاتِ، إذْ يُعَلِّمَنا كاتب السُّلَّم حول هذا الهوى قائلًا: “إنّ محبّة الذَّات هي أمّي (أمّ الزِّنَى)، والنَّار الَّتي تُضرِم فِيَّ مِنَ الخارج مَرَدَّها الاعتناء بذاتي ورَخاوة سِيرَتي. أمَّا الاضطرام مع جَيَشانِ الأفْكَار مِنَ الدَّاخِل فيَعُود لِرَخاوَةٍ سالِفَةٍ وزَلّات سابقة. أنا متى حَبِلْتُ وَلَدْتُ السَقَطات، وهذه بِدَوْرِها وَلَدَت الموت عن طريق اليأس. إنْ عَرَفْتَ بوضوح عمق ضُعْفِي وضُعْفَكَ فقد رَبَطْتَ يَدَيَّ، وإنْ جَوَّعْتَ حَلْقَكَ فقد قيَّدْتَ رِجْلَيَّ عن المسير. وإنْ خَضَعْتَ لِنِير الطَّاعَةِ فَقَد انعتَقْتَ مِنْ نِيري وإنْ اقتَنَيْتَ الاتِّضاع فقد قَطعتَ رأسي” (كتاب السُّلَّم إلى الله، المقالة 15، المقطع 90).
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
* كلمة “أنطولوجيَّة” تأتِي من المصطَلح الفَلْسَفيّ “أونطولوجيا” أو “Ontologia” باللَّاتينيَّة، وهي فرع من الفلسفة يُعنى بدراسة الوُجود بذاته، أي ماهِيَّة الأشياء وكيف توجَد ولماذا توجَد. باختِصار، الأونطولوجيا تهدُف إلى الإجابَة عن أسئلة مثل: ما الَّذي يَجعل شيئًا ما موْجُودًا؟ وما طبيعة الوُجود؟
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما