نشرة كنيستي- أحد الأجداد القدّيسين- العدد 51
17 كانون الأوّل 2023
كلمة الرّاعي
تحضير البشريّة لاستقبال المخلِّص
في الكتاب المقدَّس—العهد القديم ما يزيد على الثّلاثمائة نبوّة حول مجيء المخلِّص، والَّذي هو مخلّص العالم وليس فئة محدّدة من الناس أو شعبًا ما. ”هُوَذَا فَتَايَ الَّذِي اخْتَرْتُهُ، حَبِيبِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. أَضَعُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْبِرُ الأُمَمَ بِالْحَقِّ. لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ، وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ، حَتَّى يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ. وَعَلَى اسْمِهِ يَكُونُ رَجَاءُ الأُمَمِ“ (مت 12: 18—21؛ راجع أيضًا إش 42: 1 – 4). هذا المخلّص المنتظر وعده الرَّبّ قائلًا: ”أَجْعَلُكَ عَهْدًا لِلشَّعْبِ وَنُورًا لِلأُمَمِ، لِتَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ، لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ، مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ“ (إش 42: 6 و7).
لم يكن اليهود وحدهم ينتظرون مخلِّصًا، هذا الانتظار كان موجودًا حتّى لدى الأمم، ففي ديانات المصريّين القُدامى آمنوا بأنّ “أوزوريس” هو المخلّص. وفي ديانة اليونان الإله “زيوس” الَّذي يُعتبر أعلى آلهة الإغريق والمنقذ، ويصوِّر الشّاعر اليونانيّ اسخيليوس (525 – 456 ق.م) في ثلاثيّته المسرحيّة ”الأورستيا“ على أنّ زيوس هو المنقذ، وإنّ زيوس هو محقّق الأمل. والهندوس يؤمنون بأنّ فشنو – الإلَه بما هو حافظ – يتجسّد على شكل إنسان أو شكل خارق عندما تدعو الحاجة لإصلاح كلّ شيء والقضاء على الشّرّ، يقول فشنو: ”وعندما يتدهور النِّظام والعدالة سأنزل إلى الأرض“. وعند البوذيّة “النرفانا” هي درب الخلاص، وبوذا، الَّذي من معانيه المنقذ المنتظر، هو المخلّص. وعند الزرادشتيه سيظهر المنقذ “ساونشيان” الَّذي سيولد من عذراء ستظهر في بحيرة كاسنويا وإنّ التَّجديد النّهائيّ سيحصل على الأثر من تضحية ساونشيان الَّذي سيأتي لتجديد الحياة في نهاية الحياة، وستُمْحى في زمانه جميع الشّرور الَّتي أثارها أهرمان.
حتّى في الفكر الفلسفيّ ظهرت “اليوتوبيا” أي حلم الجنس البشريّ بالسّعادة واشتياقه الخفيّ للعصر الذّهبيّ أو لجنّته المفقودة كما تصوّر البعض، واليوتوبيّات الَّتي جادت بها قريحة الفلاسفة وتأمّلاتهم عديدة جدًّا، بشّروا فيها بالمخلّص والخلاص على طريقتهم الخاصّة، ولكن أشهرها على الإطلاق جمهوريّة أفلاطون.
باختصار، البشريّة تبحث عن مخلّص لها من واقعها المأساوي وتنتظره، وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على أنّ الله بثّ في خليقته انتظار خلاصه عبر انتظار مخلّص هو بالحقيقة الله نفسه أي الابن الوحيد الكلمة المتجسّد الَّذي وُلد من العذراء البتول في ملء الزّمان.
* * *
أحد الأجداد، أي هذا الأحد، هو تذكار أجداد الرّبّ يسوع المسيح الَّذين كانوا قبل الشّريعة وفي الشّريعة، هؤلاء ليسوا بالضّرورة من النّسل البشريّ الَّذي أتى منه يسوع المسيح بالجسد، بل الآباء والأنبياء في العهد القديم الَّذين انتظروا وعد الله بالخلاص وعرفوا به وتنبّأوا عنه. هؤلاء هم الَّذين كشف الله لهم في العهد القديم تحقيق الوعد بمجيء الَّذي ”يسحق رأس الحيّة“ (راجع تك 3: 15) وتدبير التَّجسّد والفداء (راجع مثلًا إش 4: 17 و53؛ حز 44: 1– 3؛ إلخ.).
في هذا الإطار، حضَّر الله البشريّة لمجيء ابنه ولخلاصه عن طريق ”كلمته المبذورة“ (Logos Spermatikos) في الطّبيعة البشريّة، وهذا ما يوضحه القدّيس يوستينوس الفليسوف الشَّهيد (القرن الثّاني ميلادي) في دفاعه عن المسيحيّين بقوله إنّ “المسيح هو بكر الخليقة، وهو كلمة الله الَّذي اشترك فيه الجنس البشريّ بأسره. فكلّ من عاش عيشة تتّفق والكلمة كان مسيحيًا ولو دُعيَ وثنيًّا، كما جرى بين اليونانيّين أمثال سقراط وهيراقليطس وغيرهما”. كما أردف قائلًا: “المسيح كلمة الله ينير العقول البشريّة منذ البدء بزرع إلهيّ، وأخصبت هذه العقول منه عند النّاس الطّيّبين بذورًا (Sperma)، فعرفت بعض الحقائق ولكنّ اهتداءَها لم يكن كاملًا”. الإنسان كونه مخلوق على صورة الله فهو يتوق إلى الله الخالق مصدره، وهذه الصّورة تشدُّه إلى الأصل والمثال.
* * *
أيّها الأحبّاء، يا لها من نعمة وعطيّة لا تُقدَّر بثمن أن يكون الإنسان مسيحيًّا أي أن يكون من الَّذين وُهبوا أن تُسَلَّم إليهم حقيقة الوجود وسرُّ الله بالإيمان في يسوع المسيح ابن الله المتجسِّد. البشريّة ما زالت إلى اليوم تنتظر مخلِّصًا، أمّا نحن الَّذين عرفنا الله بيسوع المسيح فإنّنا نعلم علم اليقين أنّ المخلِّص أتى واتمّ كلّ شيء لخلاص الإنسان والخليقة، وأنّ هذا الخلاص مُعطى للَّذين يؤمنون به في سكب الرّوح القدس بأسرار الكنيسة…
الرّبّ يسوع نفسه كشف لنا أنّ الذين انتظروه فرحوا لقدومه إذ قال لليهود: ”أبوكم إبراهيم تهلَّل بأن يرى يومي فرأى وفرح “ (يو 8: 56). أيضًا، جميع الَّذين انتظروه من الوثنيّين وجدوه في إنجيل السّلام الَّذي بشّر به الرُّسل، وهو ”حَسَبَ إِعْلاَنِ السِّرِّ الَّذِي كَانَ مَكْتُومًا فِي الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّةِ“ (رو 16: 25).
لننتظر اليوم الرّبّ آتيًا من البتول مولودًا طفلًا في مذود حقير تحيط به البهائم العجم لتدفئه، والبشر يتامّلون في هذا المقمَّط، الموحِّد نفسه مع كلّ ضعيف ونكرة، والَّذي هو خلاص العالم وهم يسمعون نشيد الظّفر أن في العُلى لله مجد وسلام على الأرض للبشر.
ليكن انتظارنا للمخلِّص سعيًا لحياة جديدة في توبة صادقة وحارّة نطلبها بنعمة طفل المغارة لنُجدِّد الوعد للإله بالأمانة لحبّه أي بكفرنا بكلّ وثنيَّة كامنة في تعلّقاتنا الدّنيويَّة والبشريّة، وبأن نضع اتّكالنا عليه ورجاءنا فيه سالكين في وصيّته أي أن نحبّ، والمحبة اهتمام وعناية وشركة وفرح ومسامحة وتواضع ووداعة وحنوّ ولطف وصلاح، وهذا كلّه ثمرة ميلاد المخلّص في حياتنا بالرُّوح القدس الَّذي يلده فينا ويلدنا فينا شركاء في ميراثه الأبديّ…
المخلص يأتي ليمنحنا الغلبة على عدوّنا الأوَّل والخير الَّذي هو موت الخطيئة مصدر كلّ موت وألم وحزن في حياة البشر…
انتظار الخليقة تحقَّق في يسوع واكتمل ولكنّه ينتظر تحقيقه فينا إلى الأبد بانعتاقتنا إلى حرِّيَّةِ أبناء الله في مجده…
فهل مِنْ فاهِمٍ طالِبٍ للرّبّ؟!…
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما